كُتب وقيل الكثير عن أمر التركيبات السكانية في مجتمعات الخليج، وآثار هذه الفسيفساء البشرية من الأعراق والأديان واللغات في تكوين صورة المدينة الخليجية المعاصرة التي تبدو في حالة «انتقالية» دائمة بسبب وتائر التحولات الديموغرافية والعمرانية في شكلها الخارجي والحراك في نسيجها الاجتماعي، وهي حالة تبدو استثنائية في إطار التحولات في وجه المدينة العربية عامة في العقود القليلة الماضية. لكن ما لم يجرِ التمعن والتمحيص فيه كفاية هي «العوالم» الخاصة للجاليات غير العربية، الآسيوية خاصة، المقيمة في بلدان الخليج والتي تشكل النسبة الأعلى من الكثافة البشرية في هذه البلدان: كيف تفكر وكيف تعيش وكيف تتواصل وكيف تنظر لأهالي المنطقة أو للجاليات الأخرى المقيمة، بما فيها الجاليات العربية، وما هي ضوابط أو معايير العلاقة بين هذه الجاليات، وهذه كلها عناصر مهمة جديرة بالبحث والتقصي من قبل الباحثين والمهتمين. الأديب اللبناني احمد فرحات قام بتجربة لافتة حين ترجم نصوصا شعرية لعدد من الشعراء الآسيويين المقيمين في دولة الإمارات، صدرت في كتاب عن المجمع الثقافي في أبوظبي، ويلاحظ أن جل هؤلاء إن لم يكن كلهم في عمر الشباب، بل ان بعضهم ولد وتربى ونشأ في الإمارات. ولا تخطيء العين أن مفردات البيئة المحلية في الإمارات تنعكس في الشحنة الشعرية والعاطفية والنفسية في هذه النصوص رغم أن النصوص في تماسها مع الهم الإنساني العام تعكس ما لدى الإنسان اليوم بصرف النظر عن جنسيته أو لغته من توترات ومظاهر قلق وانكسار أو خيبة، خاصة إذا ترافقت مع مشاعر الغربة والفشل في التصالح مع الجو المحيط. لكن يبقى الإبداع بما فيه الإبداع الشعري حقلا له حساسيته الخاصة التي تجعله وحده غير كافٍ للولوج إلى عوالم هذه الجاليات بكل ما فيها من تعقيدات وتناقضات ما زلنا وسنبقى طويلا على ما يبدو جاهلين بها أو بتفاصيلها. ويلاحظ أن الإعلام الذي يهتم بأمر هذه الجاليات هو إعلام ناطق أو مكتوب بغير العربية، إنه إعلام من داخل هذه الجاليات بلغاتها ولهجاتها، ويعكس تراثها الثقافي واللغوي والديني. صحيح أن الجرائد الإنجليزية الصادرة في بلداننا الخليجية، وبينها البحرين، والموجهة هي الأخرى لهذه الجاليات أو لشرائحها المتعلمة والقارئة، تُولي عناية أكبر لقضايا هذه الجاليات وثقافاتها، لكن يبقى القارئ العربي مواطناً خليجياً كان أو مقيماً، في جهل مطبق بهذه القضايا والثقافات، وتبقى هذه الجاليات أشبه ما تكون «بالغيتوهات» البشرية المغلقة على نفسها في أصداف صلبة. وهذا القول لا يتناقض البتة مع ما نكرره دوما عن التأثيرات السلبية الجانبية للكثافة العددية الهائلة للعمال الآسيويين في بلدان الخليج، خاصة على الناشئة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العدد الهائل من الخدم والمربيات وكذلك الزيجات المختلطة خاصة من قبل الكهول وكبار السن. ولكي نستوعب هذه التأثيرات ونحتويها ووضع استراتيجيات سكانية مستقبلية في بلدان المنطقة، تضع بعين الاعتبار الحاجات التنموية لهذه البلدان من جهة، والمفاعيل الاجتماعية والثقافية، والسياسية أيضاً لوجود هذه الجاليات الكبيرة بيننا من جهة ثانية، فنحن بحاجة لمعرفة هذه «العوالم» المغلقة التي تعيش بيننا، أعني معرفتها من داخلها. وللحديث تتمة غداً.