بنا- خاص
أربعة عقود مضت ولا تزال البحرين بحدودها المائية كجزيرة تواجه ظاهرة العمالة غير النظامية التي تتعدد أسبابها وتتنوع بين جشع البعض، وأحلام العمال الأجانب الوردية التي لربما يتحقق بعضها لكن غالبيتها لا تعدو أن تتبخر كسحابة صيف.
حيث تشير نتائج المسح الميداني لأوضاع العمالة الأجنبية بالبحرين الذي اجري عام 2008 أن 70 بالمائة من العمال الأجانب، وهم في غالبيتهم من الهند يليهم البنغاليون فالباكستانيون، دفعوا مبالغ لتأمين وظائفهم بالبحرين سواء بالاستدانة او ببيع أملاكهم ببلدانهم لتحقيق حلم الحصول على وظيفة بالبحرين، لكن يرى 30 بالمائة منهم فقط أن الحلم تحقق، فيما يرى 47 بالمائة انه تحقق لكن بثمن، ويرى 23 بالمائة منهم أنه كان وهماً، لكنهم في غالبيتهم يتفقون وبنسبة 68 بالمائة أن انخفاض مستوى الأجور في بلدانهم هو الدافع الرئيس لقدومهم للبحرين، وهم حين قدموا كان 89 بالمائة منهم لا علم لهم بالقوانين والاجراءات الخاصة بتوظيفهم، و90 بالمائة منهم لا علم له بمتطلبات تراخيص الاقامة والعمل بالبحرين.
أربعة عقود راكمت 41 ألف عامل أجنبي هو متوسط تقديرات العمالة الأجنبية غير النظامية في البحرين، وفيما يرفعها بعض الباحثين الى حدود 60 ألف عامل تبقى هذه الأرقام في أكثر التقديرات تفاؤلاً تمثل نحو 10 بالمائة من إجمالي العمالة الأجنبية بالبحرين في كل الأحوال، إذ كشفت إحصائيات هيئة تنظيم سوق العمل عن مؤشرات الربع الرابع من العام الماضي 2009، كشفت أن إجمالي حجم العمالة الوطنية والأجنبية بنهاية الربع الرابع بلغت 603,482 عاملاً ممثلاً بذلك أقل نسبة نمو سنوية وقدرها 4.4% منذ العام 2002، حيث كان حجم العمالة الإجمالي للربع الثالث من العام الماضي يبلغ 600,143 عاملاً، منهم الى 136,532 عاملاً مواطناً، و466,950 عاملاً أجنبياً.
الموروث الثقيل
حين تأسست هيئة تنظيم سوق العمل ورثت ميراثاً ثقيلاً من تراكمات 40 عاماً، تراكمات جعلت من نسبة العمال غير النظاميين بالبحرين الى العدد الكلي للسكان تبلغ 4.2 بالمائة في منتصف 2009، متجاوزة الولايات المتحدة الامريكية التي تبلغ فيها النسبة 3.94، ومتجاوزة اليونان التي تبلغ فيها النسبة 2.69، تراكمات شكلت لجميع وزراء العمل الذي تعاقبوا على إدارة سوق العمل المحلية صداعاً مزمناً، إذ أصبحت ظاهرة العمالة غير النظامية “جربة مبطوطة” خاصة وأن الاختراقات التي يغذيها جشع بعض المتطفلين على سوق العمل تنجح في تجاوز القوانين بشتى الطرق لتعدد الجهات الرسمية المسئولة عن الترخيص للعمالة الأجنبية.
العمالة غير النظامية هي آخر المحطات التي تختزل تطور هذه الظاهرة عبر المصطلحات التي أطلقت عليها، فمن “العمالة السائبة” الى “الفري فيزا”، مروراً بالعمالة الهاربة، وليس انتهاء بـ”العمالة غير القانونية”، وحين كانت معاملات الترخيص لجلب عمالة وافدة تقتصر على المعاملات الورقية كان المجال واسعاً أمام المتلاعبين يصل في بعض الأحيان حتى الى تزوير مستندات رسمية للتوافق مع اشتراطات الوزارات لجلب عمالة وافدة، غير أن تأسيس هيئة تنظيم سوق العمل وتدشين عملها في مايو 2007 كمؤسسة رسمية تختص بتنظيم شؤون العمالة الوافدة، أغلق عشرات المسارب والثغرات التي كان يستغلها جالبوا العمالة السائبة لتحقيق أرباح غير شرعية بإغراق سوق العمل المحلية بالآلاف من العمال الأجانب الباحثين عن عمل، وليصنعوا سوق عمل سوداء خارج إطار القوانين بالكامل، إذ اعتمدت الهيئة على تقنيات حاسوبية متطورة لا مجال فيها للتلاعب، أبسطها تحصيل البيانات البيولوجية للعمالة الأجنبية (بصمة الأصابع والصورة الشخصية والتوقيع الإلكتروني) وبحيث لا يمكن للعامل المخالف الذي يتم ترحيله أن يعود للمملكة بجواز سفر جديد وبيانات جديدة، ناهيك عن إمكانية التحقق الفوري من هوية العامل في موقع عمله حتى إن لم يكن يحمل أوراقاً لهويته، حيث ترتبط تقنيات التفتيش للهيئة بقاعدة بيانات تستجيب لحظياً والكترونياً بشكل فوري ودقيق لا مجال فيه للأخطاء.
أبعاد أمنية وسياسية
وليست الظاهرة ذات تأثير على البعد الاقتصادي فحسب، إذ تلقي ظاهرة 41 ألف عامل غير نظامي بظلالها على الأبعاد الأمنية او السياسية والاجتماعية والاخلاقية، الأمر الذي جعل من الرؤية الاقتصادية الوطنية للبحرين 2030 حافزاً رئيساً للعمل بجد لإنهاء ظاهرة العمالة غير النظامية، فالرؤى التي تتضمنها الرؤية تعتمد بشكل كامل على التخطيط العلمي الدقيق الذي لا يقبل العشوائية، وهذا التخطيط الدقيق يتطلب سوق عمل منظمة لا تعاني من تشوهات تمنعها من الاستجابة للخطط، هذا الحافز الرئيس حرّك راكد جميع المؤسسات الرسمية والأهلية المعنية للتعاطي بكامل الجدية مع معالجة تشوهات سوق العمل وظاهرة العمالة غير النظامية، فكانت توجيهات صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية، في نوفمبر من العام الماضي 2009 بتوحيد جهود كل المؤسسات الرسمية المعنية بهذه الظاهرة في إطار واحد جامع، والتي تجسدت في الاجتماع التنسيقي الأول لوزراء العمل والداخلية والصحة والعدل، وتمخض عنه تشكيل لجنة عليا للإشراف على الحملة الوطنيـة لمعالجة ظاهـرة العمالة غير النظامية، تشرف على فريق عمل وطني من الوزارات الأربع بالإضافة الى وزارة شؤون البلديات ووزارة الصناعة والتجارة، والنيابة العامة، يتولى مهام تخطيط وتنفيذ وتنسيق الخطة الوطنية لإنهاء ظاهرة العمالة غير النظامية بالمملكة ومكافحة كل أشكال المتاجرة بالبشر، إذ ليست ضرورات الداخل المحلي – وإن كانت هي الرافعة الأساسية لجهود إنهاء العمالة الأجنبية غير النظامية – فحسب تحتم معالجة الظاهرة، بل تمثل التزامات المملكة الحقوقية الدولية دافعاً تزداد أهميته يوماً إثر يوم، خاصة مع الصعود الدولي للمملكة كبلد جاذب للاستثمارات الدولية ويتأسس على أسس قانونية تحمي الحقوق.
لجنة وطنية عليا
فكان أن أصدر وزير العمل رئيس مجلس إدارة هيئة تنظيم سوق العمل د. مجيد بن محسن العلوي قراراً وزارياً في يناير الماضي، يقضي بتشكيل اللجنة الوطنية العليا لمعالجة ظاهرة العمالة غير النظامية برئاسة الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم سوق العمل علي أحمد رضي، تختص بالإشراف العام على الحملة الوطنية لمعالجة ظاهرة العمالة غير النظامية، تتولى مهام رسم السياسة العامة للمشروع ومتابعة عمل اللجان الفرعية الأخرى العاملة فيه، كما تتولى الإشراف على الحملة الإعلامية، وتذليل الصعوبات والمعوقات التي قد تعترض سير العمل في المشروع.
وفيما نص القرار الوزاري على أن تقوم اللجنة بإعداد تقارير دورية بشأن نتائج الحملة ورفعها اللجنة الوزارية معالجة العمالة غير النظامية، كما تتمتع بصلاحيات الاستعانة بهم من أهل الخبرة أو ذوي الشأن لمناقشتهم والاستماع لآرائهم، ضمت اللجنة 16 عضواً يمثلون 9 مؤسسات بالقطاعين الحكومي والأهلي ذات العلاقة بظاهرة العمالة غير النظامية.
وأطلقت اللجنة حملة مستدامة للانتهاء مرة واحدة ونهائياً من العمالة غير النظامية، حملة توزعت على الشركاء مهام التفتيش والحصر والتنسيق كلٌ في تخصصه، كما توزعت مهام التوعية والإعلام بتكامل متناغم بين جميع الشركاء وبقيادة هيئة تنظيم سوق العمل.
الهيئة التي تمثل نقطة الارتكاز في الحملة الوطنية تجهز حالياً لحملة تفتيش مشتركة مع البلديات والإدارة العامة للجنسية والجوازات والإقامة، في الوقت ذاته الذي يواكب ذلك تنسيق حملة إعلامية شاملة بمشاركة وزارة الثقافة والإعلام، بالإضافة الى تنسيق إعلامي توعوي مع قطاع السفارات بالمملكة، وتنسيق مع وزارة الصحة في تطوير إجراءات فحص العمال الأجانب، والارتكاز الرئيس كائن على الحملات التفتيشية التي لم يتوقف عن تنفيذها قطاع الضبط القانوني بالهيئة، إذ بلغت الجولات التفتيشية التي نفذتها الهيئة خلال العام 2009 بلغت 17,640 جولة تفتيشية على مختلف المناطق التجارية في البحرين، تم خلالها ضبط 518 صاحب عمل مخالف لأحكام القانون، ولقد تركزت معظم المخالفات في استخدام عمال أجانب دون تصريح عمل وعددهم 854 عاملاً أجنبياً، غير أن يد الهيئة لا يمكن أن تصفق لوحدها أمام تراكمات أربعة عقود، الأمر الذي يتطلب ببداهة تكاتفاً وطنياً للخروج من عنق زجاجة “الفري فيزا” نهائياً.