أثار صدور القرار رقم (79) لسنة 2009 بشأن إجراءات انتقال العامل الأجنبي إلى صاحب عمل آخر بعض اللغط في الشارع البحريني فور صدوره والقرار كما هو معروف هو قرار تنفيذي لبيان بعض الإجراءات والضوابط لوضع المادة (25) من القانون رقم 19 الصادر في 2006 بشأن تنظيم سوق العمل موضع التطبيق الفعلي، وقد نصت على (أن يكون للعامل الأجنبي دون موافقة صاحب العمل – حق الانتقال للعمل لدى صاحب عمل آخر وذلك دون الإخلال بالحقوق المقررة لصاحب العمل بموجب أحكام القانون أو نصوص عقد العمل المبرم بين الطرفين). وقد جاءت هذه المادة حينذاك لتحسم مرحلة من المشاورات والنقاشات المتعمقة على مستوى السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ورجال الأعمال ومؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، حيث استمرت لمدة عامين قبل أن تقر هذه المادة التشريعية حول حق انتقال العامل الأجنبي، على اعتبار ان هذا الحق يمثل ثمرة من ثمرات تحرير وإصلاح سوق العمل الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين نائب القائد الاعلى رئيس مجلس إدارة مجلس التنمية الاقتصادية. إن إصلاحات سوق العمل هي إحدى المرتكزات الثلاث التي ينبني عليها إصلاح الاقتصاد البحريني إلى جانب إصلاح التعليم والتدريب الذي تقوده لجنة برئاسة معالي الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس الوزراء، والإصلاح الاقتصادي المتعدد الأوجه وهو ما يقوم به مجلس التنمية الاقتصادية. ورغم اختلاف الرؤى حول أي من المرتكزات التي يجب أن تشيّد أولاً وأي منها ثانياً أو ثالثاً، فإن القطاعات الثلاثة انطلقت في مسارات متوازية هدفها، إنشاء الله، توفير العدالة بين المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد والمجتمع. وفي كل مراحل الدراسات والتخطيط والتنفيذ والتقييم اعتمد المشروع مفهوم المشاورة والحوار ثم اتخاذ القرار، لكنه في نفس الوقت اعتمد العدالة والاستدامة، ولا يمكن تحقيقهما بالتردد والتخاذل في تطبيق ما خطـط لـه. وبالنسبة لبعض ما أثير مؤخراً من مخاوف وملاحظات حول قرار حرية انتقال العمالة فإننا نود أن نتناول هذا الموضوع من خلال عدد من المحاور الأساسية على النحو التالي: أولاً: حجم التأثير المتوقع لتطبيق القرار: نبادر إلى القول بأن عدد العمال الأجانب الذين سوف ينتقلون إلى أصحاب أعمال آخرين بموجب هذا القرار لن يقلب الموازين في سوق العمل وأنه سيكون محدوداً ومنظماً ولن يكون مؤثراً كما ظن البعض وذلك للأسباب التالية: من ناحية أولى إن الشركات الكبرى والمؤسسات التجارية والمالية وغيرها من المنشآت العاملة في القطاعات الهامة والمؤثرة في المجتمع البحريني هي منشآت جاذبة للعمالة الوطنية والأجنبية على السواء، حيث تتوافر لديها ظروف وشروط عمل وحوافز وظيفية جيدة، ومن ثم فمن غير المتوقع أن تشهد هذه الشركات الكبرى والمؤسسات انتقال عمالتها إلى شركات ومؤسسات أخرى. من ناحية ثانية فإن الغالبية العظمى من العمالة الوطنية والأجنبية ملتزمة بعقود العمل الموقعة مع أصحاب الأعمال، ومن ثم فمن غير الوارد أن يقدم هؤلاء العمال الأجانب على مخالفة عقود العمل التي تتضمن شروطاً عدة، الأمر الذي سيعرضهم للمساءلة القانونية أمام القضاء، وبالتالي فإن العامل الأجنبي سيفكر جدياً قبل إبداء رغبته في الانتقال إلى صاحب عمل آخر ووضع نفسه أمام المساءلة والملاحقة القانونية مقابل بضعة دنانير زيادة في أجره. من ناحية ثالثة فإن انتقال العامل الأجنبي إلى صاحب عمل آخر بموجب القرار رقم (79) لسنة 2009 ليس حكماً جديداً على سوق العمل البحريني إلا من حيث إلغاء شرط موافقة صاحب العمل المسبقة على الانتقال، فيكفي الإشارة هنا إلى أن قرار التحويل المحلي رقم (40) سنة 2002 بتعديل بعض أحكام القرار رقم (21) سنة 2001 بشأن تنظيم حالات التحويل المحلي لبعض فئات العمال الأجانب لا تختلف أحكامه عن الأحكام الواردة في القرار رقم (79) بشأن انتقال العامل الأجنبي. وللعلم فقد تحول وفق هذا القرار أكثر من 3800 عامل أجنبي في العام الماضي 2008 إلى صاحب عمل آخر. أضف إلى ذلك ان العامل الأجنبي في جميع الأحوال عندما يقرر إنهاء عقد العمل أو الانتقال إلى صاحب عمل آخر فلن يكون بوسع صاحب العمل الأول إجباره على البقاء ولن يكون بوسع صاحب العمل إلا اللجوء للقضاء في حال تضرره من ذلك وفي حال مخالفة عقد العمل الأمر الذي يبرهن على أن التخوف من تطبيق القرار الجديد ليس في محله. · من ناحية رابعة يمكن للعامل البحريني حالياً أن ينتقل لصاحب عمل آخر دون أن يسبب ذلك إشكالاً في السوق بل يقويها. فكيف يلحق انتقال العامل الأجنبي ضرراً ولا يحدث نفس الأثر إذا انتقل المواطن! وحتى العامل الأجنبي في حقيقة الأمر يمكنه ترك عمله والسفر إلى دولة خليجية مجاورة أو غيرها ثم يعود بعد أسبوع أو أقل للعمل لدى صاحب عمل آخر وكل ما أضافه القرار (79) لسنة 2009 الأخير هو إلغاء شرط السفر قبل الانتقال لصاحب عمل آخر وفي المقابل وفر ميزة الالتزام لمحتوى عقد العمل. ثانياً: مزايــا القرار: على الرغم من محدودية الآثار السلبية المتوقعة لتطبيق القرار المذكور، إلا أن هذا القرار ستكون له العديد من المزايا النوعية على سوق العمل البحريني التي يمكن إجمالها فيما يلي: 1- إن تطبيق هذا القرار يأتي تأكيداً لريادة مملكة البحرين الحضارية والتزامها بالمواثيق والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، مما يبرهن على أن مملكة البحرين تولي حقوق الإنسان أهمية كبيرة، الأمر الذي ينعكس إيجابياً على سمعة المملكة في المحافل الدولية فالعمل حق خاضع لإرادة الإنسان الحرة بعيداً عن وسائل الضغط والإكراه المحرمة دولياً، إن اختيار الوظيفة التي يعمل فيها الإنسان – أي إنسان- هو من صلب حقوقه التي نصت عليها القوانين والتشريعات، في نفس الوقت فإن إكراه أي إنسان على عمل هو أمر يتعارض مع ديننا وتقاليدنا قبل تعارضه مع القوانين والاتفاقيات الدولية ولا يختلف إثنان أن الالتزام بهذه المعايير الدولية أصبح من أهم الشروط التي تفرضها الدول المتقدمة للدخول في استثمارات مع الدول الأخرى. 2- إن تطبيق قرار الانتقال من شأنه تحفيز سوق العمل من حيث تحسين ظروف وشروط العمل والارتقاء بعنصر العمل في مواجهة إغراق سوق العمل بالعمالة الرخيصة والعمالة السائبة، مما يؤكد قدرة مملكة البحرين على تطبيق العمل اللائق الذي اختارت منظمة العمل الدولية البحرين لتكون أحد الدول الثمان في العالم التي تطبقه، فالاقتصاد يحتاج لشركات تعتمد على التقنيات والآلة والعمالة ذات القيمة المضافة وليس عمالة رخيصة. وهذه أيضاً ميزة ستشجع الاستثمارات الغربية في البحرين!! 3- إن قرار انتقال العامل الأجنبي – حال تطبيقه – سيؤدى إلى تشجيع المنافسة المتكافئة بين العمالة الوطنية والأجنبية، حيث يصبح لدى العامل الأجنبي القدرة على التحرك والانتقال مثل العامل الوطني، الأمر الذي يخلق منافسة متكافئة بين الاثنين مما ينعكس إيجابياً على سوق العمل لصالح العمالة الوطنية حيث سيخفف الضغط الهائل على مستوى الأجور من عمالة أجنبية رخيصة. 4- إن تطبيق قرار انتقال العامل الأجنبي من شأنه أن يقضي على الظواهر السلبية الموجودة في سوق العمل حالياً، حيث من المأمول أن تختفي ظاهرة العمالة السائبة والهاربة، حيث يكون متاحاً أمامها توفيق أوضاعها والاستفادة من الانتقال إلى أصحاب أعمال آخرين، وبالتالي تجنب المجتمع البحريني الكثير من السلبيات بل والجرائم التي صاحبت وجود العمالة السائبة والهاربة في الفترات السابقة على الرغم من الجهود الحثيثة التي تم بذلها لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد استقرار سوق العمل وحتى أمن المجتمع بالمملكة. إنما تقوم به الدولة ممثلة في مؤسساتها المختلفة كوزارة العمل وهيئة تنظيم سوق العمل والإدارة العامة للجنسية والجوازات والإقامة لمواجهة ظاهرة العمالة السائبة (وهو مطلب وطني وبرلماني) ما هي إلا جهود ومحاولة صعبة ومكلفة جداً لمواجهة أخطار الظاهرة وليس معالجة أسبابها. والقرار الجديد يصب تماماً في اقتلاع جذور المشكلة. ثالثاً: هل جاء هذا القرار معبراً عن توافق مجتمعي؟ تجدر الإشارة إلى مسألة هامة، وهي أن هذا القرار جاء بالتوافق مع جميع الأطراف والجهات المعنية، ولكن يجب أن يفسر التوافق هنا في إطاره المرسوم قانوناً، فليس معنى التوافق الأخذ بمطالب كل طرف من الأطراف على اختلافها ولكن يجب أن يتم على أساس قيام كل طرف بتقديم بعض التنازلات حتى نتمكن من الوصول إلى صيغة توافقية تحقق مصالح جميع الأطراف، وإلا فإن تحقيق رغبات جميع الأطراف يجعل التوافق متعذراً، وهذا ما اتبعته هيئة تنظيم سوق العمل في إصدار هذا القرار، حيث تلزمها المادة الخامسة فقرة (ب) من القانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل بضرورة عقد مشاورات مع الجمهور والجهات المعنية قبل إصدار أي قرار أو تنظيم جديد خاص بالعمالة الأجنبية، وقد قامت الهيئة فعلاً بالتشاور مع الجمهور والجهات المعنية مثل غرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وغيرها من الجهات المعنية الأخرى في سبيل التوصل إلى صيغة توافقية تتماشى مع المادة (25) من قانون تنظيم سوق العمل. وفي هذا الخصوص فإن الهيئة قد أخذت بالكثير من مرئيات غرفة تجارة وصناعة البحرين وضمنتها القرار رقم (79) لسنة 2009 الذي وافق عليه مجلس إدارة الهيئة قبل إصداره، الأمر الذي يبرهن على أن الهيئة تشاورت مع الجهات المعنية قبل إصدار هذا القرار، وخير دليل على ذلك استغراق المناقشات لثلاث سنوات منذ صدور قانون تنظيم سوق العمل قبل صدور قرار التطبيق وبالفعل تم تعديل المادة الثانية من القرار بالنص على عقد مراعاة عقد العمل بين صاحب العمل والعامل وإعطائه صفة قانونية. فالعقد شريعة المتعاقدين كما تمت الإشارة إلى فترة 3 أشهر كحد أعلى لمهلة الانتقال. والجدير بالذكر أن المادة (25) سبق وأن أقرتها السلطة التشريعية بعد التشاور مع الجهات المعنية ومن بينها بالطبع غرفة تجارة وصناعة البحرين، حيث حرصت لجان مجلسي الشورى والنواب قبل إقرار هذه المادة على الاستماع إلى آراء ومرئيات الجهات المعنية وعقدت معها العديد من الاجتماعات لمناقشة جميع الأبعاد المتعلقة بهذه المادة، الأمر الذي يؤكد أن هذه المادة محل توافق بداية من التشاور مع الجهات المعنية وحتى إقرارها من السلطة التشريعية بمجلسيها الشورى والنواب. ولازال مبدأ التشاور مستمراً، وهو ما جعل غرفة تجارة وصناعة البحرين والكثير من الفعاليات تؤكد على دعمها لهذه المبادرة الجريئة والرائدة في تحرير وتنظيم سوق العمل، وهو الأمر الذي أكدت عليه الغرفة خلال اللقاء الإيجابي والمثمر الذي عقد في يوم الأربعاء المـوافق 13 مايو 2009، بين أعضاء مجلس إدارتها وأعضاء مجلس إدارة هيئة تنظيم سوق العمل والذي اقتصرت ملاحظاتها خلاله على المطالبة بإدخال بعض الضوابط الإضافية على شروط ومعايير تطبيق القرار، وقد أسفر عن هذا الاجتماع المثمر تشكيل اللجنة الرباعية بين وزارة العمل، وهيئة تنظيم سوق العمل، وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين والتي تتولى مسؤولية تقديم مقترحات بشأن الضوابط التي يمكن اعتمادها ضمن معايير قبول طلبات الانتقال لدى هيئة تنظيم سوق العمل شريطة ألا تتعارض مع مبدأ وأحكام القانون، كما تتولى اللجنة المشتركة نفسها تقييم ومتابعة النتائج المترتبة على تطبيق القانون بعد دخوله حيز التنفيذ لرصد ومعالجة السلبيات التي قد تظهر وتضر بأصحاب العمل أو العمال للعمل على معالجتها وفقاً للآليات الدستورية المعتمدة. وأخيراً، فإنه بالإضافة إلى قناعتنا التامة بمزايا هذا القرار والمبررات التي دعت إلى إصداره، إلا أنه يبقى القول أننا في إطار الدستور والقانون نلتزم – كسلطة تنفيذية – بتطبيق القوانين التي تقرها السلطة التشريعية فلا نأمل تعطيلها أو تأجيلها بل لا يجوز لنا ذلك، وكل ما نأمله خلال قيامنا بتنفيذ واجبنا هو استمرار التعاون والتحاور بين أطراف الإنتاج بما فيه خير هذا الوطن العزيز على اعتبار أننا كلنا في سفينة واحدة ربانها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى وعلينا نحن ركابها مسؤولية الوصول بها إلى شاطئ الأمان مهما اختلفنا في جزئيات مهامنا وتفاصيلها.