فهمي هويدي
قرار البحرين إلغاء نظام الكفيل خطوة متقدمة ومتحضرة تستحق الاحترام والتشجيع. وهذا النظام لمن لا يعرف مطبق منذ عقود في جميع دول الخليج، وهو صيغة مهذبة لاسترقاق العمالة الوافدة. تحول عقد العمل إلى ما يشبه عقد الشراء والملكية، ومن ثم تربط مصير الموظف أو العامل بإرادة ومزاج من استقدمه. فهو يحتفظ في خزانته بجواز سفره، ولا يسمح له بالخروج من البلاد إلا بإذنه، ولا يسمح له بأن ينتقل من عمل إلى آخر في داخل البلاد إلا بموافقته. وفي أي لحظة يستطيع صاحب العمل أن يلغي كفالته فيطرد الوافد من البلد على الفور، لأن إقامته تصبح غير شرعية. ولأن مصير الموظف أو العامل يظل معلقاً برضا الكفيل، فإن ذلك أدى إلى إضعاف موقف الأول واستقواء الثاني، مما يدفعه في بعض الأحيان إلى ابتزاز العاملين لديه وإذلالهم وإهدار حقوقهم. والذين عاشوا في الخليج يحتفظون في ذاكرتهم بقصص كثيرة لعالم الكفالات بما يحفل به من أحزان ومرارات. حين التحقت بمجلة العربي الكويتية قبل أكثر من ربع قرن، كان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تولى رئاستها خلفاً لمؤسسها الدكتور أحمد زكي، وعلمت منه أنه حين تولى منصبه كان أحد شروطه ألا تحتجز جوازات سفر صحافيي العربي القادمين من الخارج لدى وزارة الإعلام، لأنه اعتبر ذلك مسلكاً مهيناً ومرفوضاً. وقد استجاب وزير الإعلام لطلبه، ومن ثم ظل كل واحد منا محتفظاً بجواز سفره طوال الوقت، وبالتالي محتفظاً بحريته في الحركة في الدخول والخروج. وكان ذلك وضعاً استثنائياً على القاعدة المطبقة على كبار القضاة والمستشارين وأساتذة الجامعات، والمدرسين والعمال والحرفيين. لا أعرف من أين جاءت فكرة «الكفيل»، لكني أرجح أن تكون من بقايا مرحلة ما قبل نشوء الدولة وغياب القانون. حيث تشير المراجع التاريخية إلى أن عرب الجاهلية ووجهاءها كانوا يقومون بحماية ضعفائهم ويأوون من استجار بهم، من باب المروءة والشهامة، فيما عرف آنذاك بأنه عقد الجوار أو الذمة،الذي كان يبرم أيضاً بين القبائل القوية والضعيفة. وبدا ذلك أمراً مفهوماً ومبرراً، إذ لم تكن فكرة المواطنة قد تبلورت بعد، ولا كان هناك قانون يحمي مصالح الناس ويطبق على الجميع. ومن ثم اقتضت المروءة أن يتصدى الكبار والأقوياء لتأمين الضعفاء والغرباء. أما في ظل الدولة الحديثة التي ترتبط بمعاهدات وأنظمة دولية، كما يفترض أن تطبق فيها القوانين واللوائح على الجميع، فإن وجود نظام الكفيل أصبح بلا معنى في حقيقة الأمر، ولكنه تحول إلى سيف أو سوط في يد صاحب العمل يمارس به إذلال العاملين وقهرهم. إذ في هذه الحالة لا يخضع الوافد لسلطة القانون فحسب، وإنما يخضع أيضاً لسلطة صاحب العمل وأهوائه. في الوقت ذاته فإن نظام الكفيل أصبح يمثل تراجعاً حتى عن مفهوم الذمة في معناه الذي ساد في العصر الجاهلي. إذ لم نعد بصدد وضع يحمي فيه القوي الضعيف، وإنما يمكن فيه الأول من التحكم في الثاني، فضلاً عن أن طبيعة العلاقة بين الطرفين لم تعد قائمة على الأمان والثقة، بقدر ما أصبحت مسكونة بمشاعر التوجس والارتياب في الوافد. المدهش في الأمر أن نظام الكفيل اهتم بتكريس تقييد حركة الوافد والتحكم فيه، بأكثر مما اعتنى بالتدقيق في هويات القادمين، خصوصاً بعدما تحول إلى تجارة يتربح منها البعض، مما ترتب عليه إغراق أسواق بعض الدول الخليجية بالعمالة الآسيوية التي أحدثت خللاً في التركيبة السكانية، أصبح يقلق كثيرين من الغيورين على مستقبل تلك الدول. لقد خطت البحرين خطوة مهمة إلى الأمام، جديرة بأن تحتذيها الدول الخليجية الأخرى، التي لا تزال مدعوة لأن تتعامل مع ملف الوافدين بما يوفق بين كرامتهم الإنسانية، واستقرار تلك الدول ومصالحها العليا.