أوهام سوق العمل العربية

شهدت السنوات الأولى للألفية الثالثة هبوب وفورات مالية مريحة على العالم العربي بعد حوالي عقدين من النمو الاقتصادي المحبط.

وأوضحت مجلة “اكزاكتيف” في تقرير نشرته في عددها الأخير أن نسبة النمو في متوسط الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في المنطقة قد ارتفعت إلى 6.3% العام 2006 بعد أن ظلت في حدود 4.6% خلال السنوات الأربع الأولى من هذا العقد و1.7% خلال النصف الثاني من عقد تسعينات القرن الماضي. وإذا أخذنا في الاعتبار معدل نصيب الفرد من الدخل القومي، فإن المنطقة تمتعت بنسبة نمو بلغت في المتوسط 4.2% العام 2006، وهو أعلى مستوى يتحقق خلال العقدين الماضيين.

وبالمقابل فقد تراجعت معدلات البطالة من 14% في أواخر التسعينات – عندما وصلت إلى ضعف المعدل العالمي– إلى 10% العام 2005. وفي الحقيقة فان نسبة الفئات العمرية الشابة بين العاطلين، والتي تتزايد منذ سبعينات القرن العشرين، أيضاً شهدت تراجعاً مماثلاً. إلا أن النشوة التي استمرت خلال السنوات العشر الماضية تعرضت لصدمة موجعة في سبتمبر 2008 عندما اندلعت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة وامتدت آثارها إلى كافة مفاصل الاقتصاد العالمي.

وحتى الآن لجأت العديد من الدول إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي ومنظمات أخرى من أجل حل مشكلاتها الداخلية. ويتوقع غالبية المحللين الاقتصاديين أن يستمر الركود الاقتصادي العالمي طوال هذا العام، وأن لا تزيد نسبة النمو عن 2% – مقارنة بنسبة 5% خلال السنوات الأخيرة. والأسوأ أن بعض الدول ستتضرر أكثر من غيرها، بما في ذلك الاقتصاد الأمريكي.

وإذا كان السؤال عن الفترة التي ستستمر فيها آثار هذه الأزمة، فإنه بالنظر إلى الكساد العظيم ،الذي بدأ العام 1929، وجدت مؤسسة داو جونز أن مؤشرها لم يرجع إلى مستواه السابق إلا العام 1954 – أي بعد ربع قرن. أما حالة الكساد المشابهة الأسبق منها، والتي بدأت العام 1873 وارتبطت ببداية انهيار الإمبراطورية البريطانية، فقد استمرت 23 عاماً. ولا يمكن الجزم حاليا بأن الأزمة الراهنة ستؤدي إلى زوال الهيمنة الأمريكية، إلا أن ما يمكن الجزم به هو أنها لن تنتهي في سنة أو سنتين.

ومهما يكن الأمر، من المهم بالنسبة لسوق العمل في العالم العربي الاستفادة من دروس الماضي وعدم الارتهان إلى الخرافات التي هيمنت على أذهان الكثيرين سابقاً.

وأولى هذه الأوهام هي أن النفط صمام الأمان دائماً. إلا أنه وجد أن الاقتصادات التي تعتمد على النفط تحقق نمواً اقتصادياً عالياً عندما ترتفع أسعاره – وهذه عادة لا تستمر لفترة طويلة – لكنها تعاني من النمو الاقتصادي السلبي عندما تهبط أسعار النفط. وعلى العموم، وعلى أساس معدل النمو الاقتصادي، يلاحظ أن الاقتصادات غير المعتمدة على النفط حققت نتائج من الدول النفطية بعد تبخر آثار الطفرة النفطية الأولى التي بدأت العام 1973.

وفي الحقيقة لم يكن الأداء الاقتصادي للمنطقة العربية في ستينات وسبعينات القرن العشرين في مستوى نظيره في شرق آسيا، بل كان يفوقه في العديد من المجالات.

وعلى سبيل المثال تمتعت المنطقة بمعدل نمو لإنتاجية العامل يفوق نظيره في اقتصادات النمور الآسيوية. كما أن الصورة الساطعة للمعجزة الآسيوية نابعة أساساً من حقيقة انهيار معدل الإنتاجية في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا (مينا) بعد منتصف السبعينات. ومع هبوط العوائد تراجع الطلب على الأيدي العاملة فارتفعت معدلات البطالة في غالبية الدول العربية. 

تقول ثاني هذه الأوهام أن المنطقة تعاني من كثافة سكانية عالية وهذا سبب ارتفاع البطالة. إلا أن زيادة أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل يمكن أن تساهم في خفض معدلات الإعالة وإصلاح أنظمة التقاعد المكلفة للدولة، هذا رغم حقيقة أن معدل نمو القوى العاملة في منطقة مينا قد تراجع بنسبة 10% منذ 1990، من 4% في السنة إلى 3.7% في السنة علاوة على أنه من المتوقع أن يهبط أكثر إلى 2.2% في غضون العقد القادم. وبناء عليه فان التدفق السنوي للعمال على المنطقة سيتراجع من العدد الحالي البالغ 3.9 مليون عامل إلى 3.4 مليون عامل.

وتتمثل ثالث هذه الأوهام في القول بأن بطالة الشباب هي السبب. فقد استحوذت على أذهان الحكومات، ولفترة طويلة، برامج محاربة بطالة الشباب. وتتعدد الأسباب التي تنسب إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الفئات العمرية الشابة، ومنها أن الشباب غير مبالين بالقيم الاجتماعية. وتمثل رد الحكومات في برامج مكثفة مثل صندوق المكتوم في الإمارات ومشروع صلتك في قطر. ولكن هل تستطيع هذه الجهود معالجة المشكلة من جذورها؟. لا تشير الشواهد المتوفرة في وجود أي فرق بين بطالة الشباب وبين البطالة بشكل عام. إذ أن البطالة تزداد بين الشباب لأن الاقتصاد غير قادر على توليد الوظائف. فالدول التي تعاني من ارتفاع البطالة بشكل عام تعاني في نفس الوقت من ارتفاع البطالة بين الشباب. إن ما تحتاج إليه الدول العربية هي سياسات قوية للنمو الاقتصادي وإلا لن تنجح برامج توظيف الشباب.

والوهم الرابع هو أن العمل في القطاع الحكومي حق مكتسب لكل مواطن. ويقال هذا بعد أن تشبع هذا القطاع بالوظائف، وعلى سبيل المثال نجد انه في بعض دول مجلس التعاون الخليجي يعمل حوالي 90% من القوى العاملة الوطنية في هذا القطاع.

بعد استعراض عدداً من الأوهام المرتبطة بسوق العمل العربية، من المهم الإشارة إلى الدروس المستفادة من السنوات الماضية، والتي منها أن الاعتماد في التوظيف يجب أن يتركز على القطاع الخاص، والاهتمام بجودة التعليم، والاهتمام بالمهارات التي يحتاج إليها الاقتصاد المعرفي، وأخيراً تنشيط النمو الاقتصادي.