لنتفق على الفقر

ذرائع

لنتفق على الفقر

غسان الشهابي 

 التقرير الذي خرجت به ”الوقت” يوم السبت الماضي يعد من التقارير المهمة في مسألة الفقر التي يزداد الحديث عنها في السنوات القليلة الماضية خصوصاً مع الارتفاع المستمر والمستعر للمواد الغذائية.

لطالما كنت غير مرتاح من مطالبات النواب ربط زيادات الأجور، و”رش” الزيادات والعلاوات على المواطنين لأن أسعار النفط مرتفعة هذه الأيام، لأنه من المستحيل أن تبني الدولة قرارات مصيرية بناء على سوق تتقلب بين ليلة وضحاها، كما يحدث هذه الأيام التي تنزل فيها أسعار النفط بشكل دراماتيكي كما ارتفعت دراماتيكياً من ذي قبل، وذلك حتى لا تصبح البحرين بعد آيسلندا التي أعلنت إفلاسها وتحاول اليوم أن تستدين من روسيا مبلغ 5,5 مليار دولار لسد العجز الذي تعانيه. ولكن هذا لا يعني أن لا تضخّ الأموال للمعالجة الأساسية للمشكلة، وليس لملاحقة ذيولها.

فالتعقيب الذي أدلت به هيئة تنظيم سوق العمل صحيح في مجمله، قوي ومترابط، يدعو إلى العلمية وعدم دغدغة العواطف، والفرح بالإحصاءات التي تطابق مع تريد الصحيفة قوله بغض النظر عن التيقن قبل النشر.وإذا كان هذا موضع اتفاق، إذ ليس من المصلحة أبداً أن يدخل المجتمع في بلبال، وأن تبدأ الفعاليات المختلفة في تجاذب هذه الأرقام والتصريحات الذاهبة مع وضد، كلٌّ يريد أن يجيّرها لصالحه، ويجعلها في خدمته وإن على حساب المتضررين.

وليس من مصلحة الوطن أن يُسقى الفقراء المرارة تلو المرارة، وأن يزداد المتجرعون مئات آخرين بفعل العجلة في الاستنتاج (كما تصفه الهيئة). وفي الوقت نفسه، فإن هيئة تنظيم سوق العمل نفسها ليست معنية بخط الفقر والدخل العام للبحريني والأسرة وغيرها من التبريرات التي أتعبت نفسها في ضرب الأمثلة لها، فهناك – من المفترض – جهات أخرى تقيس وتعتمد خطوط الفقر بين كل فترة وأختها.

وهذا هو مربط الفرس هنا. فإذا انبرى مركز البحرين للبحوث والدراسات قبل حوالي خمسة أعوام بدراسة تقول خلاصتها إن الأسرة في البحرين التي يقل دخلها عن 360 ديناراً (تقريباً) فإنها تنحني تحت خط الفقر؛ فإن هذه الدراسة بنتائجها صارت هي المحك والمؤشر الوطني والمقياس الذي عليه نعتمد، هذا بصرف النظر عن سؤال أيٍّ منا عن ماهية الرافعات والاشتراطات التي بنيت عليها هذه الدراسة، وما المقاييس الأساسية لها، والطريف هنا أن الجميع – تقريباً – قبل بهذه النتيجة لأنها (كانت) قريبة جداً من المواقع.

لذا، وضعتُ ”كانت” بين هلالين لأن الوضع ما بين السنوات الخمس الماضية بالنسبة للأسعار قد اختلف أيما اختلاف، والشكاوى بارتفاع الأسعار تكاد لا تفارق أية صحيفة من الصحف الست اليوميات، والغلاء ضارب بأطنابه في كل ما تلتفت إليه حولك، إذ تغيرت أسعار بعض السلع والخدمات صعوداً بنسب يفوق بعضها الضعف. ومن هنا ما عاد صحيح أن يجري الاعتماد على تلك الدراسة على اعتبار ثباتها في وجه المتغيرات التي طرأت بأسرع من المتوقع.

صحيح أن هيئة تنظيم سوق العمل لم تصدر هذه الأرقام قياساً للفقر، ولكن الزميل الصحافي قد استفاد منها لهذا الغرض وهذا ليس عيباً ولا نقصاً، فالكثير من الاختراعات والاكتشافات وحتى العقاقير الطبية إنما صُنعت لغرض ما، ولكن عن طريق الصدفة أحياناً يتم اكتشاف فعالياتها في مكان آخر، كما حدث لعقار فياغرا الذائع الصيت الذي يقال إنه إنما رُكب لعلاج أمراض القلب، فاكتشف بعد التجربة إنه يعالج حالات الضعف الجنسي لدى الرجال والأمثلة في هذا الوارد كثيرة.. فربّ إحصائية هنا تنبّه إلى نقص هناك، وقد تفتح جداول صيغت لغرض ما، الباب واسعاً والجدل كثيفاً في مسألة أخرى.. وليس هذا أيضاً لبّ القضية!

لبّ القضية أننا سنحتاج إلى مؤشرات وطنية متداركة للأسعار، وخط الفقر يجري تحديثه بشكل مستمر وليس مجرد دراسة أنجزت وجفت من بعدها الأقلام وطويت الصحف، وصارت هي المحور الذي ندور حوله، بينما الأرقام المستندة عليها جميعها تغيرت، بما فيها التعداد الجديد للسكان الذي جاوز المليون، والأسعار المؤدية للجنون، وبعيداً عن النواب وهم يدغدغون، والوزراء وهم يرفضون، والدوائر وما يفنّدون.. مقاييس واضحة وشفافة تأتي من لدن مؤسسة بحثية راسخة الأركان قوية البنيان ليس لها مصلحة في إمالة الأرقام إلى هذا الحد أو ذاك، لا يزعجها لو كان البحرينيون جميعاً فقراء، ولا يسعدها كونها جميعاً من ذوي الملاءات المالية العالية، ليس لها إلا أن تقول ما تتوصل إليه ولو كان في ذلك ما يكون من إزعاج.

إن مؤسسة أو مركزاً كهذا سيكون واحداً من الكثير من المراكز البحثية التي تعنى بالأرقام والتدقيق والإحصاءات والتحديث المبني على المسوحات الحديثة، والتي تجعل من أصحاب القرار – على المستويين الحكومي والأهلي – قادرين على جعل القرارات للدقة أقرب منها للتهويم أو الاعتماد على الظن.

اليوم قد نختلف كثيراً في تعريف ماهيّة الفقر، ولكنه خلاف صحيّ ولاشك، لأنه الخطوة الأولى للوقوف على المشكلة، والسبيل الأفضل لبدء العلاج.