إيمانا بأهمية الثروة البشرية، يتجه العالم الآن إلى تنميتها والاهتمام بها من خلال العمل على إيجاد وظائف مناسبة للأفراد لضمان حياة كريمة لهم ولحل مشكلة البطالة، وزيادة معارفهم وتنمية مهاراتهم. والبحرين بقيادة جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة» هي من الدول التي تولي اهتماما كبيرا بثروتها البشرية، وهو الذي يقول دومًا: «أغلى ما عندي هو الإنسان». وظهر ذلك من خلال إنشاء «هيئة تنظيم سوق العمل» في عام 2006، وهي جهاز لتنظيم السوق ترتبط به مصالح أصحاب الأعمال مع الرؤية الاقتصادية للوطن، وكانت الهيئة أول من فرض على منتسبيها إقرار الذمة المالية.
وفي هذا الإطار بين كتاب «قصة الإصلاح»، تأليف «أسامة بن عبد الله العبسي» الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم سوق العمل، حرص البحرين على معالجة ملف التوظيف، منذ بدء البرنامج الإصلاحي لجلالة الملك، وكيف وضع اللبنة الأولى لبناء هيئة تنظيم سوق العمل في 2005، وجاء الكتاب من خمسة فصول:
الفصل الأول بعنوان «التشخيص»، تناول فيه كلمة سمو ولي العهد الأمير «سلمان بن حمد آل خليفة»، والتي جاء فيها أن التطورات التي شهدتها البحرين في معدلات التنمية انعكست بالإيجاب على المواطن، وتناول أيضا مسألة العمالة الأجنبية في البحرين، والتي حققت فوائد اقتصادية إلا أنه من الصعب الاستمرار في ذلك؛ حيث إن الأولوية يجب أن تكون للمواطن، حيث شدد على ضرورة إيجاد حلول لمواجهة البطالة وخلق سوق عمل موحد يتسم بالعدالة، كما تناول هذا الفصل أيضا البدايات والأسس لمحاولات القضاء على البطالة، والتي اعتبرت القضية الاستراتيجية الأهم، حيث شهدت البحرين اجتماعات عدة لمحاولة إيجاد حلول للأزمة، وفي عام 2003 تم تكليف «شركة ماكنزي» لإعداد دراسة لتشخيص سوق العمل البحرينية، والتي أصدرت دراسة قدمت فيها إحصاءات لعام 2003 حول عدد العاطلين والذي بلغ (16-20 ألفا)، وأوضحت أن نوعية معظم الوظائف التي يشغلها البحرينيون منخفضة الأجور، واستعرضت التحديات المستقبلية التي يمكن أن تواجه البحرين، والتي تتمثل في ازدياد الفجوة المحتملة بين توقعات العاملين والوظائف المتاحة، وأشارت إلى طرق مواجهتها من خلال تناول سياسات العمل بأسلوب المبادرة وتطوير القدرات المؤسسية.
وتعتبر كلمة ولي العهد تقديما للفصول التالية، وتبين حرص المملكة على إيجاد فرص عمل لأبنائها وتوفير سبل الراحة والحياة الكريمة لهم، ولهذا كانت المحاولات الأولى لحل أزمة البطالة ناجحة، وأثمرت دراسة «ماكنزي» عن تقديم حلول جيدة وطرق لمواجهة المشكلة.
وكان الفصل الثاني تحت عنوان «بلورة المشروع»، ليتحدث عن تفعيل مشروع الإصلاح بتعاون سمو ولي العهد مع مجلس التنمية الاقتصادية، وانطلاق عمل المجلس على خطين متكاملين، وهما: 1. الاستعانة بالخبرات؛ ووقع الاختيار على «شركة ماكنزي».
2. تأسيس اللجنة التنفيذية «لجنة القيادة»؛ «شكلها سمو ولي العهد في 2004، وهي أول لجنة معنية بالإصلاح»، وضمت ممثلين عن الوزارات وديوان ولي العهد، واختصت بالتعاون مع الخبير الاستشاري والتنسيق مع الجهات المعنية.
ونتج عن ذلك إعداد الدراسة، التي جاءت بثلاث مراحل لتحقيق إصلاح جذري في سوق العمل وهي: 1. إصلاح سوق العمل (على المدى القصير)، 2. إصلاح اقتصادي (على المدى المتوسط)، 3. إصلاح التعليم والتدريب (على المدى الطويل).
وطالبت الدراسة القطاع الخاص بأن يكون محرك النمو الاقتصادي، وأن يرتكز على أبناء البحرين، بالإضافة إلى عوائق البحرنة في القطاع الخاص والتي تمثلت في هيكلية سوق العمل، والتي تمثل عقبة أمام ذوي الأجور المنخفضة وأنظمة العمل غير المحفزة ، وأوضحت الدراسة أن لوائح سوق العمل تتسم بالتعقيد، ولهذا دعت إلى إزالة القواعد الجامدة التي تحكم سوق العمل ودعم توظيف البحرينيين من خلال تقديم حوافز للتوظيف وتوفير برامج للإعداد للعمل، وتحسين ظروف العمل وتطبيق إجراءات واضحة لإنهاء الخدمة.
وإذا نظرنا للدراسة فسنجد أنها عملت باستراتيجية صحيحة، حيث وضعت مراحل للإصلاح على المدى القصير والمتوسط والطويل، وطرحت المشكلات التي تواجه سوق العمل بوضوح وشفافية، وهذا الطرح هام أيضا، حيث إنه يجب إعطاء الأولوية في سوق العمل لأبناء البحرين، وإزالة العوائق أمامهم لتولي الوظائف.
وجاء الفصل الثالث بعنوان «التفاعل المجتمعي»، وتناول التحفظات المجتمعية، وخاصة من جانب القطاع الخاص على الدراسة، والتي كانت من جانب غرفة تجارة وصناعة البحرين، ومن أبرزها: أن الدراسة خلصت إلى استنتاجات غير صحيحة بالقول إن الخطوة الأولى للإصلاح تبدأ بسوق العمل، وفرضية أن نموذج العمل في مشروعات القطاع الخاص يعتمد بدرجة كبيرة على الوظائف المنخفضة الأجر، وأن الدراسة تحدثت عن وضع سقف للعمالة الأجنبية إلا أنها لم توضح الآلية التي سيتم استخدامها، كما لم توضح شرائح مجتمع البطالة وفئاته العمرية، وتوقعت أن تؤدي مقترحات الدراسة الى زيادة معدلات التضخم. واقترحت الغرفة تأكيد العلاقة بين الإصلاح الاقتصادي والهيكلي وعدم التسرع بتنفيذ قرارات نتائج الدراسة. وبدوره رأى الاتحاد العام لغرف البحرين ضرورة تساوي التمثيل لكل الشركاء الاجتماعيين في الأجهزة التي ستنفذ المشروع، وتحرير سوق العمل وإعادة النظر في تطبيق نسب البحرنة، وتطبيق المشروع في القطاع العسكري، وانتقد أن الدراسة أهملت الحد الأدنى للأجور.
كما وضعت الجمعيات المهنية مقترحات تمثلت في: التغيير الجذري في أساليب التدريس، تعزيز سلوكيات احترام العمل، اعتماد منهجية الإدارة الاستراتيجية، التعاون مع الدول الصديقة، دراسة فرض ضرائب على الأرباح، إيجاد صندوق للتكافل الاجتماعي.
واختتم الفصل، بالجهود الحكومية التوفيقية والمتمثلة في: جهود القائمين على مشروع الإصلاح وفي مقدمتهم سمو ولي العهد لاحتواء الخلافات والتباين، حيث أصدر قرارا باعتماد المرونة والاهتمام بجميع الملاحظات وبيان أن الدراسة منتج وطني محلي.
وهنا نجد حرص القيادة على الحوار والنقاش المجتمعي والأخذ في الاعتبار كل التحفظات التي وضعتها الجهات المختلفة، فضلا عن تقديم تلك الجهات لاقتراحات تعرب عن رغبتها في المساهمة في حل مشكلة البطالة وتنظيم سوق العمل، ومن الجيد أيضا محاولات الحكومة التوفيق واحتواء التباين واعتماد المرونة في النقاشات وتمثيل كل أطياف المجتمع.
وبعد الحديث عن التفاعل المجتمعي، انتقل المؤلف في الفصل الرابع الى الحديث عن «المحطة الأخيرة» وتناول مشروع الهيئة، حيث قام مجلس التنمية الاقتصادية بإعداد مشروع قانون «هيئة تنظيم سوق العمل» وأحالته الحكومة الى السلطة التشريعية، حيث أخذ المجلس في الاعتبار الملاحظات التي أُثيرت حوله، والذي حدد صلاحيات الهيئة وآلية عملها. وتناول أيضا الحديث عن صندوق العمل، ويهدف إلى المساهمة في تعزيز الاقتصاد الوطني، ورفع كفاءة العمال البحرينيين، ومنح القروض الميسرة للمواطنين، وتناول أيضا الحديث حول «الحراك البرلماني»، والذي بدأ بتسلم مجلس النواب مشروع القانون وإحالته الى اللجان المختصة في مارس 2005، ونال المشروع نقاشات عديدة داخل المجلس أفضت إلى توافقات حكومية ونيابية حول تعديل (26) مادة من القانون. ثم تمت ولادة القانون بإصداره بمرسوم ملكي رقم (19) لسنة 2006 في 29 مايو 2006، وهو ما مثل تجسيدا للعملية الديمقراطية، كما أصدر القانون رقم (57) لسنة 2006 بإنشاء صندوق العمل في 12 أغسطس من نفس العام، الأمر الذي يؤكد أن الأمور كانت تسير بشكل منظم وتمر بعدة مراحل لحين تنفيذها؛ وهو ما يضمن توافقا مجتمعيا وإداريا وقانونيا حول المشروع، ويأخذ في الاعتبار التعديلات والملاحظات، وهو ما يصب في مصلحة العملية الديمقراطية بدعم القيادة السياسية للحوار والنقاشات.
واختتم الكتاب بالفصل الخامس، الذي جاء بعنوان «البناء ووضع الأسس»، إذ اتجه القائمون على مشروع إصلاح سوق العمل الى تأسيس جناحي الإصلاح (هيئة تنظيم سوق العمل وصندوق العمل)، وباشرت الهيئة مهامها، ووضعت خطة وطنية لسوق العمل وحرصت على بناء هيكل تنظيمي بدقة واحترافية، ورسمت سياسات التوظيف وتطوير نظام إصدار تصاريح سوق العمل ليكون إلكترونيا، وتم تحديد صلاحياتها والتي تمثلت في وضع خطة لسوق العمل، وجمع وتحليل البيانات وتوعية وإرشاد العمال بشأن أخلاقيات العمل والسلامة المهنية واقتراح وتحصيل الرسوم المفروضة على أصحاب العمل، وتيسير إجراءات تصاريح العمل.
وصندوق العمل الذي بدأ في مباشرة مهامه سعيا لتطوير القطاع الخاص وتنمية العامل البحريني وتطوير المؤسسات وتوفير الدعم للأفراد والمؤسسات، وإعداد دراسات للسوق ودعم الاستثمار وبرز دوره في 2011 من خلال قيامه بدور ريادي في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وحددت صلاحيات الصندوق في أنه يضطلع بتوفير برامج لتأهيل العمال البحرينيين ورفع الميزة النسبية لهم، فضلا عن المساهمة في إزالة المعوقات التي تحد من مشاركة المرأة في العمل، ومنح القروض الميسرة للمواطنين.
وأدى وجود الهيئة إلى تغيرات إيجابية عديدة في سوق العمل البحريني، وفي هذا السياق، قال الشيخ «محمد بن عيسى آل خليفة»، القائم بأعمال رئيس الصندوق التنفيذي لسوق العمل (2013- 2015): «إن الأمور في سوق العمل تغيرت كثيرا منذ إنشاء الهيئة والصندوق، وهو ما نستطيع أن نلمسه من خلال الأرقام والإحصائيات التي توضح النمو والتطور في سوق العمل والتقليل من مستويات البطالة». البحرين صارت نموذجا يُحتذى به في المنطقة ولا توجد مقارنة بين أحوال سوق العمل قبل إنشاء الهيئة وبعد وجودها، وأن العملية الإصلاحية قد حققت مبتغاها والدليل على ذلك انخفاض حجم البطالة التي كانت حوالي 20 ألفا في 2003، إلا أنها في عام 2016 أصبحت لا تتعدى 4% وبأقل من 5 آلاف عاطل.
وإجمالا، طرح المؤلف رؤية جيدة وواضحة لمشروع هيئة تنظيم سوق العمل منذ بدء إنشائها ومساهمتها في تحسين وضع سوق العمل البحريني، والتي نعتبرها إنجازا مهما يسير في ركب مشروع جلالة الملك الإصلاحي.