هناء بوحجي
في 2010، أحرجني المشرف على تحقيق استقصائي كنت بصدد إنجازه عن «خادمات» المنازل، فكان أوّل تعديل له أن أشار إلى أنه لم يعد من اللائق استخدام كلمة «خدم منازل» وأنها استُبدلت، دولياً، بكلمة «عمّال المنازل»، وتطلق على كل من يعمل في المنازل من مربيات ومنظفات وسواق وزراعين ومن في حكمهم. فأخذني تفكيري مباشرةً إلى من يطلق عليهم الأخدام في اليمن، ذلك لتشابه حروف الكلمة، ولأجد أنه، فعلاً، مع اختلاف الخلفية التاريخية للفئتين إلا أن عمال المنازل لدينا يكادون يحصلون على معاملة شبيهة بالمعاملةَ التي يتلقاها الـ «أخدام» المهمّشين الذين يعانون التمييز والتحقير المجتمعي وتترك لهم الأعمال التي تعرّف بالدونية.فكان أن استبدلت كلمة «خادمات» بـ «عاملات»، وبدأت تالياً، أراقب مدى استخدام التسمية «الجديدة»، فوجدتها تجد طريقها ببطء شديد إلى المواضيع المنشورة، وإلى ألسنتنا لكثرة ما اعتدنا على استخدام كلمة «خدم» حتى بُنيت في تكوين لغتنا ولم نعد نر بها أي امتهان لهذه العمالة التي نوظّفها في منازلنا.
وربما يبدو للوهلة الأولى أن تغيير المسمى هو ترف لغوي، أو أنه آتٍ من باب ترف المعاملة الإنسانية لهذه الفئة، وأن تعديل المسمى هو كل ما ينقص عمالة المنزل لكي تكتمل إنسانيتنا في التعامل معها، لكن الواقع يشير إلى أن الطريق لايزال طويلاً ليحظى هؤلاء بأوضاع إنسانية لائقة بهم كبشر أولاً وكعمال تالياً، لهم ذات الحقوق التي نرجوها جميعنا في أعمالنا، كما عليهم تحمّل المسئوليات التي لا تساهُل البتة في إنجازها.
والحديث عن وقوع هذه الفئة، التي حدّد اليوم (16 يونيو/حزيران) من كل عام، ليكون يومها العالمي، خلف ستار سميك من خصوصية حرمة البيوت، ليس هوعن وضع محلي أو إقليمي، فإذا كان عدد العمالة المنزلية في دول الخليج نحو مليوني شخص، فإن عددها في العالم يقارب 52 مليون شخص، وقد دفع سوء أوضاعهم منظمة العمل الدولية إلى صياغة اتفاقية 189 للعمال المنزليين لعام 2011، التي تنظم أوجه العلاقة بين العمال المنزليين وموظفّيهم فيما يتعلق بإبرام العقود، والأجر وأوقات الراحة والإجازات وغيرها.
وتدلّل المنظمة على معاناة هذه الفئة بنتائج دراسةٍ أجرتها في العام 2013 حملت عنوان «العمال المنزليون حول العالم»، بأن غالبية عمّال المنازل يعملون في ظل شروط غير واضحة، فهم إما غير مسجلين وإما لا يحظون بتغطيةقوانين العمل، إذ إن %10 فقط من هؤلاء يتمتعون بحقوق العمال الآخرين، ولذلك يعمل هؤلاء ساعات عمل أطول، ويحصلون على أجور أقل. ووجدت الدراسة أن غياب الحماية القانونية يضعف العمال المنزليين ويعسّر مطالبتهم بحقوقهم وبمعاملة منصفة.
إقليمياً، يُنظر إلى دول المنطقة، التي تعتبر من كبار المستقدمين للعمالة المنزلية المهاجرة، على أنها غير جادة في توفير الأطر القانونية الحامية لهذه الفئة، فعلي سبيل المثال، لايزال موضوع العقد الموحد يراوح، بعد مناقشات لوزراء العمل دامت نحو عامين، في خطوة صياغته، علماً أن مسئولين ذكروا أن العقد سوف لن يكون سوى وثيقة نموذجية يُسترشد ولا يُلتزم بها.
محلياً، لابد من الإشارة إلى أنه في أعقاب الإعلان عن اتفاقية 189، كانت البحرين مبادرةً، ضمن عدد من الدول من بينها أيضاً فنزويلا وإسبانيا والفلبين ودول أخرى، إلى تعديل قوانينها بإضافة بنود خاصة بالراتب والإجازات وأوقات الراحة، كما تدرس حالياً مشروع قانون خاص مُقترح تحت اسم قانون «العاملين في المنازل»، يوفّر تعريفاً شاملاً لأطراف العمل، وهم العامل وصاحب العمل ومكاتب التوظيف، ووضعت ضوابط لكل طرف من أجل صيانة حقوق العمالة المنزلية.
ومع ذلك، فإن وجود القوانين لا يعني الكثير من التغيير في أوضاع العمالة المنزلية إذا لم تتبع الصرامة في تطبيقها، ويُؤسَّس مسار قضائي سريع للنظر في قضاياها. والأهم من كل ذلك، تشكيل وعي وضمير مجتمعي يراقب ذاتياً التعامل مع هذه الفئة التي لا غنى للمجتمع عنها، وربما تكون مسابقة «إنسان» التي أطلقتها هيئة تنظيم سوق العمل، خطوة شجاعة، تعترف أولاً بوجود انتهاكات معرّفة تعاني منها عاملات المنازل، وتدعو ثانياً، فئة الشباب، وهم أرباب أسر المستقبل، لتسليط الضوء عليها، وهذا من شأنه أن يضع المجتمع في مواجهة نفسه، وهو أول طريق العلاج.
في التسعينيات، سألت عضواً في مجلس الشورى عن سبب عدم صرامة المطالبة بوضع الحلول لمسألة «الفري فيزا»، فقال خافضاً صوته: «وما العجلة في وضعٍ يستفيد منه الجميع حتى نحن أعضاء مجلس الشورى، وتنظيف سوق العمل من (الفري فيزا) يعني ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، فمن يشتكي من مزاحمة (الفري فيزا) سيشتكي فيما بعد من ارتفاع الأسعار».
الجملة نفسها سمعتها وأنا في صدد كتابة هذا المقال خلال حديثي مع أحد «العمّاليين» عندما سألته عن سبب مماطلة الدول في التصديق على اتفاقية 189، فقال: يحتاج الأمر إلى ثورة ذاتية أولاً كي يواجه ممثلي الدول أنفسهم بأن معاملتهم للعاملين في منازلهم تقع تحت تصنيف لا إنساني في المفهوم الحقوقي، كما سيحتاج لوسائل جبارة لإقناع المجتمع أن الالزام بقوانين لإنسانية المعاملة، لا يعني تمكين العمالة وتقويتهم للثورة على أرباب أعمالهم. الأمل ألا يستغرق الأمر ما تستغرقه ظاهرة «الفري فيزا»، التي لم تكف عن التمدّد منذ تصريح الشوريّ، خلف الكواليس، في التسعينيات.