بدر عبد الملك
تعالت في الفترة الأخيرة في بلدنا صيحة جديدة «تحمل في جوانبها بعض من القلق والحقيقة»، ولكنها من الجانب الآخر تحمل الكثير من المبالغة والحيرة والتبسيط لمجتمع لا يمكن إيقاف نموه وتطوره بإرادتنا حاليا، مثلما لم نكن قادرين على إيقاف الجنين الذي نما في الأحشاء بالصيغة التي نما عليها ليولد كائنا خرافيا ومخيفا على ثقافة المجتمع وهويته التي أصيبت بنوع من أنفلونزا الهلع والريبة، هذا الموضوع المقلق هو وضع الغرباء والعمال الأجانب العزاب وبضرورة وضعهم بعيدا عن المناطق السكنية التي يقطنها المواطنون. إن ذلك أمر مهم للغاية وصعب في الوقت ذاته، وقد لا يخلو أيضا من تداعيات مستقبلية لتلك الغيتوات الإنسانية التي سيتم تصنيفها وتوزيعها حسب المناطق الممكنة سكانيا، خاصة وان البحرين تعاني من مشكلة تضخم وزيادة السكان، والتي أدت إلى بروز المشكلة الإسكانية، في بلد رقعته الجغرافية صغيرة قياسا بجيرانه من بلدان مجلس التعاون. فكيف نشأت تلك الظاهرة السكانية وتداخلت العمالة الأجنبية بالسكان المحليين؟ سؤال يقودنا إلى اكتشاف الحقيقة الكابوسية التي ترعرعت بكل هدوء وعلى غفلة منا جميعا، ونبهتنا إلى واقع حقيقي منتفخ كالورم السرطاني حسبما يرى البعض جانبه السلبي فقط، مثلهم مثل أولئك الذين لا يوافقون مسألة الكفالة المباشرة للعامل الأجنبي لأنها تضر بمصالحهم متناسين مصالح الوطن والتنظيم الاجتماعي للسكان والعلاقات الإنسانية وحقوق العمالة الوافدة. بعد استقلال البحرين بسنوات قليلة وهي سنوات الطفرة النفطية 73-76 شهدت فيها البلاد عملية تنمية واسعة وحراكا تنمويا كبيرا ساهمت في تدفق العمالة الأجنبية، التي حطمت الكثير من البنى وأربكت الحياة المجتمعية أيضا، وبدلا من احتواء وتنظيم هذه العمالة الضخمة في حينه، وجدناها في السوق سائبة متجولة تطرق هذا المكان أو ذاك لعلها تجد عملا يغطي معيشتها ويغطي الثمن المدفوع صمتا للكفيل الحقيقي. وازداد طرق تلك العمالة السائبة وغيرها للبحث عن أماكن سكن رخيصة تتجمع فيه أكثر من حجمها الطبيعي لتحمل عبء الإيجار، إذ لا يمكن لعمالة متدنية الأجر قادرة على تغطية كل تكاليف الحياة. فإذا بالمواطنين مع مرور الوقت يجدون أنفسهم محاصرين بتوزيع إنساني يحمل في جوانبه آلاما ومعاناة إنسانية تدفع في بعض الوقت للانتحار والمشاكل والعنف فيما بينها وبين السكان، بل وتدفع للاعتداءات والانتهاكات الجنسية والأخلاقية، تنتهي في بعض الأحيان إلى ارتكاب جرائم كبرى وفاضحة، يفزع منها المجتمع، فيصرخ راكضا ومناديا «احمونا من الأجانب» وكأنما العمالة الأجنبية وباء غير محسوس تم اكتشافه فجأة! هذه العمالة وجدناها تتزايد منذ سنوات الطفرة، حتى بلغ تعداد الأجانب مساويا للسكان، مما يعني اننا «واحد مقابل واحد» وأمام قوة شرائية وإنتاجية تحرك السوق والتنمية المستدامة، ونتيجة لهذه الحالة تنوعت الغيتوات في المجتمع البحريني إلى حد صرنا نراها مختلطة ومفتوحة وتتحرك بحرية تامة أكثر من كونها غيتو للعمالة الأجنبية المعزولة كما هو مطلوب صنعه مستقبلا، وبمعنى آخر تم توزع العمالة الأجنبية بين السكان حسب مواقعهم ومراتبهم الوظيفية، غير أنه صار بإمكانهم القيام والعيش في الأمكنة حسب رغباتهم وقناعاتهم وقدراتهم الاقتصادية. فيما تنعمت العمالة الأجنبية الأوروبية وغيرها بمجمعات سكنية رغيدة تتناسب مع نمط حياتها، فلم تشعر بأي أذى أو مشاكل، إذ وفرت لها تلك العزلة المعيشية مناخا من الأمن حتى يومنا هذا، غير ان أحداثا سياسية مثيرة للشغب خلقت لدى تلك التجمعات المهنية نوعا من عدم الاطمئنان، شاركتها العمالة الأجنبية الرخيصة، وهي الغالبية العظمى من تلك العمالة «القلق الدائم»، بل وتعرضت للعنف والاعتداء. ومع ذلك تلك الحوادث الجانبية والعرضية لم تكن حلا لمسألة التداخل والاختلاط السكاني، والذي زحف للقرى البحرينية وكل الأطراف، بل ووجدنا أن أحياء شعبية قديمة تميزت بخواصها تكاد تفقد ملامحها نتيجة ذلك الاختلاط. ونحن بحاجة لمشروع اجتماعي وإسكاني جاد لإعادة توزيع البحرين على أساس فلسفة المتزوجين والعزاب، ولكننا من الضروري أن نتأنى كثيرا كمجلس نواب ومجتمع مدني بمناقشة كل تفاصيل هذا النظام الجديد والقيم الجديدة التي ستخلق بشكل مقصود بناء مجتمع الغيتوات، وان كان في الواقع تم خلقه تلقائيا بفعل التطور والمتغير الاجتماعي خلال العقود الأخيرة، وهي كما قلنا غيتوات منقسمة إلى نوعين أساسيين، مطحونين في أجورهم ومتنعمين في كل امتيازات المهنة. وإذا ما كانت المهمة شاقة على العمالة غير المتزوجة، فان مستوى الوظيفة قد يساعد على التقليل من تلك المشكلة، كما ان تصنيف الأحياء والأحزمة السكانية قد يساهم أيضا على قبول بعض المهن وغيرها، بل وتصبح عملية الاشتراط الشديد على السكان وعلى الكفيل المعني باستقدام عمال من الرواتب الدنيا، أو بتقديم سكن لهم وهذا مكلف، كما انه لن يكون قادرا على بناء مجمعات خاصة، ومن هنا تصبح وظيفة الدولة بناء تلك المجمعات التي ستكون سببا في تنمية الوعي العمالي بين ثقافات ولغات مختلفة تدفعها سوء المعيشة للانفجار والمواجهة بالإضافة إلى تلك المجمعات التي شيدت لمؤسسة واحدة أو أكثر في رقعة محصورة. إن الوحدة السكنية تخلق وحدة المصالح والوعي المهني، وتنمي قيم التضامن والذي سينبت مناخا للانفجار القادم، والذي بدوره – حتى وان كان الأمن الاجتماعي أو غيره مطمئنا للسيطرة عليه – فان الانعكاسات الأخرى لن تكون بعيدة عنا بما فيها ضغط المنظمات الدولية والإعلام العالمي في إبراز حقيقة واضحة لعمالة من حقها الدفاع عن نفسها طالما تعيش نمطا من العبودية! وموضوعنا بحاجة لمناقشة أوسع ولمقالات عدة نتيجة تعقده بعض الشيء ولكنه ليس مستحيلا إذا ما توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية معا شريطة حماية العمالة الأجنبية إنسانيا، ومنحها حقوقها رغم ذلك التصنيف اللاانساني للعمالة الأجنبية حينما يتم التفكير فيها على أساس فلسفة «الغيتو» والمعسكرات العمالية المعزولة المسورة !