»الوطن« – خاص
خطوة حضارية وتاريخية جديدة قطعتها مملكة البحرين بعد قرارها الجريء بإلغاء العمل بنظام ”الكفيل” الذي يبدأ تفعيله في مطلع أغسطس المقبل، الأمر الذي يعكس مدى صواب النهج الإصلاحي الذي تشهده مملكة البحرين في ظل العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى الذي وضع تحسين بيئة العمل في صدارة اهتماماته من خلال السير في مسارين متوازيين أولهما، تطوير أوضاع العمالة الوافدة بما يتماشى مع الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، وثانيهما إعادة تنظيم وهيكلة قطاع العمالة المحلية من خلال جملة من التشريعات والقوانين التي أسهمت في ارتفاع كفاءة العامل البحريني من خلال التدريب لكي يكون مؤهلاً لسوق العمل بمتطلباته الجديدة.
ولعل مظاهر الترحيب التي قوبل بها هذا القرار البحريني الشجاع، والاهتمام الواسع به من قبل وسائل الإعلام الإقليمية والدولية يؤكد أن مملكة البحرين ـ كعهدها دائماً ـ قادرة على اتخاذ المبادرات غير المسبوقة التي تؤكد إيمانها بصيانة واحترام حقوق الإنسان والعمل على تعديل أي ظروف أو ممارسات قد تشكل تأثيراً سلبياً على بني البشر بما يتماشى مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف التي شددت على حرية الإنسان وحقه في صيانة كرامته، وتهيئة المناخ المناسب له للعمل بما لا يقيد حريته وينتقص من إنسانيته.
وقد تكون هناك رؤى متباينة من قبل بعض أصحاب الأعمال على القرار لعدة اعتبارات منها ما هو منطقي وبينها أيضاً ما قد يحمل مبالغة، ولكن يبقى الحكم على أي تجربة رهناً بتطبيقها على أرض الواقع لمعرفة الإيجابيات والسلبيات بشكل أكثر دقة، ومن ثم التدخل لتصحيح أي أخطاء قد تطفو على السطح من خلال نهج الحوار والنقاش القائم على الموضوعية والمصلحة العامة بعيداً عن أي اعتبارات شخصية أو آنية لأي طرف من الأطراف.
ومن المناسب الإشارة هنا إلى تأكيدات صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر في أكثر من مناسبة بأن المبادرات الحكومية المتعلقة بإصلاح سوق العمل يجب تراعى مصالح عناصر الإنتاج وفى مقدمتها العمال وأصحاب العمل دونما أن يبطئ ذلك من وتيرة خطوات إصلاح سوق العمل أو يؤثر على الاستقرار في بنيته، ودونما أن يتأثر المستهلك وبخاصة المواطن مع المحافظة على التوازن بين متطلبات تطوير سوق العمل ومصالح القطاع الخاص.
كما تكشف تصريحات وزير العمل رئيس مجلس إدارة هيئة تنظيم سوق العمل الدكتور مجيد العلوي الكثير من الأمور المطمئنة بشأن القرار، حيث أكد أن هذا القرار متفق مع الأنظمة الدولية، وسيضع المملكة ضمن الدول المتقدمة دولياً في التعاطي مع العمالة الأجنبية، وتوقع أن تشهد سوق العمل إيجابيات واسعة ملموسة حين البدء في سريان القرار، أهمها رفع الرواتب للعمالة المواطنة والوافدة معاً، وأضاف أن القرار تم اتخاذه بالتشاور والموافقة مع غرفة تجارة وصناعة البحرين.
وتكمن أهمية ذلك القرار البحريني في اتساقه مع تطورات العصر، فنظام الكفيل كان موضع جدل ليس فقط على المستوى الخارجي ولكن أيضاً على المستوى الداخلي، لما يعتري ذلك النظام من سلبيات وممارسات لا إنسانية في الكثير منها، وبما أن مملكة البحرين حريصة على تطوير منظومة حقوق الإنسان لديها، فإنه لم يكن من المنطقي أن يستمر العمل بمثل هذا النظام العتيق ـ الذي مهما اتفقنا أو اختلفنا بشأنه ـ فالتجربة العملية في المملكة وخارجها أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنه نظام تشوبه الكثير الأمور التي تتنافى مع المكاسب التي حققتها المملكة على صعيد حقوق الإنسان، وهو ما يؤثر سلباً على السمعة الطيبة التي تكتسبها عالمياً بفضل الإصلاحات المستمرة التي تقوم بها على كافة الأصعدة.
ويكتسب الإعلان عن هذا القرار في ذلك التوقيت وتزامنه مع احتفالات العالم باليوم العمال العالمي أهمية خاصة، فمملكة البحرين أرادت أن تبعث برسالة إلى العالم أن حقوق العمل بها مصانة، وأنها لا تقتصر في احتفالها بهذه المناسبة على المهرجانات والخطب مع أهميتها، ولكنها تطلق المبادرات على أرض الواقع، وتتحرك بكل دأب لتطوير قوانينها بما يراعي قوانين العمل والاتفاقيات الحقوقية الدولية.
ومن جهة أخرى، فإن قرار مملكة البحرين بإلغاء نظام ”الكفيل” لم يأت فجأة وإنما بعد دراسات ونقاشات مستفيضة، ويشكل إضافة جديدة للجهود الساعية إلى إصلاح أوضاع العمال الوافدين بما يتماشى مع المبادرة التي أطلقها ولي العهد الأمين صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في العام 2004 لبدء حوار وطني شامل حول مستقبل مملكة البحرين الاقتصادي والتي تمثل نقطة الانطلاق لمشروع إصلاح سوق العمل الذي يعتبر أحد أهم المشروعات المرتبطة بتطور الكيان الاقتصادي البحريني وتحقيق مستويات أفضل من النمو، لاسيما أن الاقتصاد البحريني أثبت أنه قادر على الاستجابة بمرونة فائقة وكفاءة عالية لمتغيرات العصر بما تحمله من تحديات تنافسية على الأصعدة كافة.
ولتنفيذ هذه المبادرة تم إنشاء هيئتين مستقلتين تحت مسمى ”هيئة إصلاح سوق العمل”، وصندوق العمل ”تمكين” ليكونا داعمين للدور الحيوي الذي تضطلع به وزارة العمل في تنفيذ مهامها الأساسية في إدارة سوق العمل في مختلف المجالات.
وقد يكون من الضروري هنا التذكير بملامح الرؤية الشاملة والمتكاملة عن واقع ومستقبل العمل في المملكة التي قدمها سمو ولي العهد إلى دول العالم في كلمته أمام الدورة 96 لمؤتمر العمل الدولي بجنيف العام ,2007 لأنها ترسم بدقة مستقبل قطاع العمل في البحرين، وقد تزيل مخاوف البعض من القرار، إذ تضمنت الرؤية الترحيب والتحذير من العمالة الوافدة في المنطقة بصفة عامة والبحرين بصفة خاصة، إذ أكد سموه ضرورة الالتزام بحماية حقوق هذه العمالة وفق المبادئ الإنسانية والتشريعات الدولية وحذر في ذات الوقت من الآثار السلبية لزيادة تدفق هذه العمالة لما قد يشكله ذلك من عنصر لعدم التوازن داخل أسواق العمل في المنطقة، لاسيما وإن كانت هذه العمالة غير منظمة.
كما تضمنت الرؤية التأكيد على ضرورة أن تراعى برامج وخطط تنظيم سوق العمل في المملكة ثلاثة أمور رئيسية، أولها التعامل مع المتغيرات الديموغرافية في التركيبة السكانية التي تؤدى إلى تزايد أعداد القوى العاملة من الفئة الفتية والشابة، وثانيها وضع أطر منظمة لمسألة الاعتماد على العمالة الوافدة سواء من كبار أو صغار الموظفين، وثالثها تكوين بيئة عمل تهيئ فرص النجاح الكامل للقوى العاملة.
كذلك يعد قرار إلغاء نظام ”الكفيل” حلقة جديدة في سلسلة من القرارات والإجراءات التي اتخذتها المملكة خلال السنوات القليلة الماضية لتحسين بيئة العمل، ومنها:
؟ تطبيق نظام رائد في المنطقة العربية هو ”التأمين ضد التعطل” الذي وضع البحرين في مصاف الدول المتطورة على صعيد شبكة الحماية الاجتماعية للمواطنين، وبخاصة أن النظام يهدف إلى تلافي سلبيات مشكلة البطـالة واستكمال منظومة الأمان الاجتمـاعي بتوفير إعانات للعاطلين من الداخلين الجدد في سوق العمل وتأمين تعويضات للمتعطلين.
؟ إقرار ”المشروع الوطني للتوظيف” الذي جاء بمبادرة من جلالة الملك المفدى بهدف معالجة مشكلة البطالة من خلال تعديل ميزان الجاذبية بين الباحثين عن عمل ومؤسسات القطاع الخاص باعتماد آليات عمل تتصف بالعلمية والواقعية في ملامسة احتياجات مختلف الأطراف سواء من خلال الدعم الفني والمالي لمؤسسات القطاع الخاص لتوظيف البحرينيين أو توفير برامج التدريب وإعادة التأهيل للباحثين عن عمل.
؟ تبنى مشروع لتحسين أجور البحرينيين من ذوي الدخول الضعيفة، وذلك في إطار خطة تهدف لتحسين أجور أكثر من 30 ألف بحريني عبر برنامج لتحسين الأداء ورفع الإنتاجية، إلى جانب تطوير مهارات مسئولي الموارد البشرية والتدريب في القطاع الخاص ومساعدتهم على تحديد الاحتياجات التدريبية للعاملين لديهم.
؟ دعم وإنجاح مشروعات ”البحرنة” عبر مراجعة المشروعات التي وضعتها لزيادة نسبة البحرنة، وبإعادة النظر في قانون العمل بالقطاع الأهلي بالتشاور مع غرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وقامت بتحديد قطاعات أساسية مستهدفة لزيادة قدرة المملكة التنافسية وذلك في ضوء دراسات أعدتها شركة استشارية عالمية متخصصة.
* تبني عدد من المشروعات الهادفة لرفع كفاءة العمالة الوطنية، وجذب الفرص والمشاريع الاستثمارية التي تسهم بشكل فعال في خلق فرص العمل الجديدة، ومنها فتح مركز البحرين للمستثمرين لانجاز جميع معاملات المستثمرين بأسلوب المحطة الواحدة، والتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة التي تسهم في جذب استثمارات تخلق خلق فرص عمل جديدة أمام المواطنين.
؟ العمل من أجل الحد من استقدام العمالة الوافدة للقضاء على البطالة عبر قصر إصدار رخص العمل لاستقدام هذه العمالة على وزارة العمل لضمان السيطرة على الرخص والحيلولة دون أي إساءة في استخدامها.
؟ تنفيذ مشروع للتعليم والتدريب المهني الذي يهدف إلى العمل في إطار منظومة متكاملة لتطور المؤهلات المهنية الوطنية وتطوير نظام التعليم والتدريب ليلبي الاحتياجات فعلية لسوق العمل المحلية.
* تبني مشروع للتأمين على البحرينيين العاملين في الخارج والذي جاء تحقيقاً لمبدأ الحماية الاجتماعية للمواطنين.
؟ وضع مشروع للتدريب المهني للخريجين والذي يهدف إلى رفع كفاءة العمالة الوطنية وجعلها قادرة على المساهمة في بحرنة الوظائف بصورة فعالة.
والخلاصة، إن القراءة المتعمقة لقرار إلغاء نظام ”الكفيل” وما تضمنه من شروط وضمانات تصب في خانة أن هذا القرار من شأنه أن يحدث تطويراً شاملاً لبيئة العمل في البحرين وسيقضي على ظاهرة العمالة السائبة ومعالجتها جذرياً، فضلاً عما يتضمنه من استحداث لمحكمة عمالية وتسهيل الإجراءات القضائية الخاصة بالعمالة الأمر الذي يؤكد أن مملكة البحرين عازمة على التعاطي مع العمالة الوافدة كبشر كرمهم الله عز وجل، وليس كسلعة تباع وتشترى.