رأي الخليجي
د.باقر النجار
يمثل العمل الأجنبي في دول مجلس التعاون الخليجي المفصل الأساس في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لكثير من المواقع في المنطقة، وقد كتب من أجله كثير من الدراسات، كما انعقد كثير من المنتديات والندوات التي جاء بعضها ”مندداً” به معلقاً عليه كل التداعيات السلبية لعمليات التنمية المتسارعة واللامتوازنة في كثير من المواقع والقطاعات في مجتمعات المنطقة.
على رغم الشكوى من قلة البيانات حول حجم هذا العمل بجنسياته المختلفة فإن الأرقام تذهب في تقديره إلى أن حوالي 14 أو 15 مليون وافد يعيشون في هذه المنطقة جلّهم في السعودية والإمارات.
ومهما يكن من أمر ذلك، فإن حديثنا عن العمالة الأجنبية في منطقة الخليج العربي يشمل وافدين قدّرتهم بعض الأوساط بحوالي 15 مليوناً، بعضهم استوطن المنطقة لعشرات السنين وبنى ثروته وصيته الاقتصادي فيها، وأصبح في هذا جزءاً من تركيبتها الإثنية المحلية، وبعضهم الآخر يبقى لبضع سنين سرعان ما يغادرها لأسباب شخصية أو لشعور بعضهم الآخر بأنهم استطاعوا أن يحققوا كل أو جل ما جاؤوا من أجله. وهؤلاء الوافدون يحوّلون سنوياً ما يقارب 59 مليار دولار، وهم في وجودهم يخضعون المنطقة لكمٍ من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي لا يمكن تجاهلها أو الحديث المقتضب عنها. فالعمالة الأجنبية أصبحت تمثل الأساس الذي بدأت تتشكل عليه أو وفقه عمليات الإنتاج والتنمية، بل إنهم وبفعل تمفصلهم في شتى أشكال النشاط، باتوا يمثلون الهيكل الذي تقف أو تقوم عليه شتى أشكال النشاط الاقتصادي والاجتماعي ولربما الثقافي والسياسي. وهي عمالة يتمتع بعضها بثراء ورفاه اقتصادي واجتماعي لا يتمتع بهما بعض مواطني المنطقة في مقابل كثرة منهم، وتحديداً تلك العاملة في الرتب الدنيا من العمل: كعمال المصانع والورش والمعامل والبناء والخدمات الشخصية والمنازل، والذين يخضعون لظروف اجتماعية ومعيشية صعبة، دفعت بعضهم للتظاهر والاعتصام، وتبنى مشكلاتهم بعض من حكوماتهم ومنظمات حقوقية في دول المنشأ، كما تبنت مشكلاتهم المنظمات الحقوقية الدولية. وشخص كثير من الدراسات وضع هذه العمالة في الحالة القانونية والإجرائية التي يخضع لها وجودهم في المنطقة، أي تحديداً الطريقة التي ينظم نظام الكفالة بها هذا الوجود والذي طالما اخترق من قبل أرباب العمل ومستوردي العمالة في الداخل الخليجي. وهو نظام يربط العامل بصاحب العمل ويحكم من خلاله وجوده في سوق العمل، وهو بهذا لا يستطيع الانتقال للعمل في مؤسسة أخرى من دون موافقة صاحب العمل (الكفيل)، هذه الموافقة التي من النادر أن تعطى للعامل الأجنبي، وعدم الموافقة قد تضطر العامل لإتمام المتبقي من فترة عقد عمله إلى أن يسافر ومن ثمة يعود ليلتحق بصاحب العمل الجديد. وإذا ما كان صاحب العمل الأول من أصحاب النفوذ فإن هذا يعني في بعض الحالات منعاً تاماً له من دخول البلاد.
وعلى رغم أن هذا النظام تخضع له كل العمالة الأجنبية العاملة في المنطقة فإن درجة تطبيقه وفرضه على العمالة الأوروبية وغيرها من عمالة ذوي ”الياقات البيضاء” أقل حدة من تطبيقه على العمالة ذات المستويات المهنية الوسطى والدنيا، والتي يبقى أمر مصير بقائها مربوطاً بصاحب العمل (الكفيل). بل يمتد ذلك في أن يحتفظ صاحب العمل بجواز سفر العامل طيلة وجوده في دولة الاستقبال، وهي حالة تخضع لها عموماً عمالة الدرجة المتوسطة والدنيا من العمالة الأجنبية في المنطقة.
وباعتقادي هناك مؤشرات تحوّل مهمة ليس في موقف دول الاستقبال من العمالة الأجنبية فحسب وإنما في ما أفصح عنه كثير من المسؤولين في مداولات مؤتمر العمالة الأجنبية الذي عقد في أبوظبي يناير الماضي وتمت خلاله مناقشة ضرورة تحسين أوضاع العمالة الأجنبية في رتبها الدنيا من ناحية وفي ضبط قنوات استقدامها من ناحية أخرى، وكذلك ما عبر عنه المسؤولون من رغبة في إنهاء نظام الكفالة، لكونه نظاماً يتصف باللاإنسانية ويعرض العمالة الدنيا تحديداً لقدر غير عادي من الاستغلال. بل تعدى ذلك لإعطاء هذا النظام أوصافاً تقارب أوصاف حال العمالة الزراعية في أوروبا الإقطاعية أو حال استغلال العمالة الدنيا في المراحل الأولى من تاريخ أوروبا الصناعية. بل إن مقاربة بعض الوزراء وتحديداً وزيري العمل البحريني والعماني لحالة نظام الكفالة كشكل من أشكال العمل الجبري أو المأجور تعتبر تحولاً مهماً في المزاج والتوجه الرسمي. وكلها باعتقادي أمور تمثل مؤشرات تحول مهمة في التوجه الرسمي من هذه العمالة وضرورة تغيير أوضاعها، فنظام الكفالة أصبح بالنسبة للبعض من مواطني المنطقة حقاً ومصدر رزق من غير المحتمل التخلي عنه من دون بدائل أخرى ومن دون تحول مهم في القيم الحاكمة لسلوك الامتلاك هذا الذي يتسم به نظام الكفالة.
وتحكم نظام عمل العمال الأجانب في الخليج قوانين العمل المعمول بها في القطاعين الحكومي والخاص. ونظام الكفالة غير مكتوب في القوانين إلا أنه منذ أن عملت به السلطات البريطانية في ثلاثينات القرن الماضي كمحاولة منها لاحتواء شكوى التجار الكويتيين من المزاحمة غير المتكافئة لهم من قبل التجار الهنود العاملين في الكويت والذين اعتبروا في ذلك الوقت كمهاجرين مشمولين بالرعاية البريطانية نتيجة لتابعية الهند لبريطانيا حينذاك، أصبح نظاماً يحكم دخول وإقامة وعمل العمال الأجانب في عموم المنطقة. فالعامل الأجنبي لا يستطيع الدخول والعمل في دول مجلس التعاون من دون الحصول على كفيل محلي قد يكون مؤسسة حكومية أو شركة خاصة أو فرداً. ولا يسمح هذا النظام للعمال بالانتقال للعمل من مؤسسة إلى أخرى أو من صاحب عمل إلى آخر من دون موافقة الكفيل المحلي، كما إن هذا النظام يحكم حتى وقت قريب، وربما لايزال في بعض دول المنطقة، عمل أي مؤسسة أجنبية، إذ لا يسمح لها بالعمل في الداخل من دون شريك (كفيل) محلي يتلقى في الغالب جزءاً من الربح أو مبلغاً مقطوعاً كل شهر أو كل سنة نظير كفالته لها.
إن نظام الكفالة يمثل أحد الأنظمة التي وجه إليها كثير من الانتقادات الداخلية، وتعرض لهجوم كبير من قبل الدول المصدّرة للعمالة والمنظمات الحقوقية العالمية ومنظمة العمل الدولية، وأعطي أوصافاً ترقى لاعتباره شكلاً من أشكال ”العبودية أو الرق”، الأمر الذي بدا دافعاً نحو القبول الرسمي بحقيقة أن هناك ضرورات قد تستدعي الدعوة إلى تغيير النظام الذي يتصف باللاإنسانية، وبسببه وجّه لدول المنطقة نقد شديد.
ويقابل هذا الضغط الخارجي الداعي إلى إلغاء النظام ضغوط داخلية شتى من قبل أرباب العمل ومجتمع التجار وبعض المتنفذين المحليين المستفيدين من نظام الكفالة الذي يمثل بالنسبة لهم مصدراً أساسياً وكبيراً للدخل والإثراء. ويثير هؤلاء المخاوف من أن إلغاء أو إسقاطاً سريعاً للنظام قد يقود لحالة من حالات الفوضى في ظل غياب بدائل تدريجية له، إذ إن مخاوف بعض التجار وأرباب العمل قائمة على أساس أن إلغاء النظام، الذي يعني إلغاء الأطر التي يقوم عليها استقدام وبقاء العمالة الأجنبية سيدفع من ناحية نحو ارتفاع كبير في معدلات الأجور بفعل حركة الاستقطابات التي يمكن أن تخلقها عملية الإلغاء هذه، الأمر الذي يمكن أن يدفع نحو ارتفاع جديد في معدلات التضخم نتيجة لأي ارتفاع يمكن أن يحدثه ذلك في السلع والخدمات، كما إنه يمكن أن يؤدي إلى تعثر عمل وأداء بعض هذه الشركات نتيجة لغياب ”الضابط” الإجرائي والقانوني والذي يدفع هذه العمالة للبقاء في هذه المؤسسات خصوصاً إذا كانت أوضاعها من حيث الأجر وظروف العمل متدنية. ويطرح أرباب العمل من ناحية أخرى أن الإلغاء السريع لذلك من دون التدرج فيه والبحث عن ضوابط جديدة وفترة من التكيف معها، قد يدفع نحو حالة من الفوضى قد تكون مؤقتة أو هيكلية لسوق العمل المحلية في الخليج. بمعنى آخر إن البحث عن بديل أو بدائل لنظام الكفالة غير الإنساني والذي ربما مر على تطبيقه في المنطقة قرابة القرن من الزمان قد يتطلب مرحلة انتقالية وتكيفية أو ”أقلمة” اقتصادية وثقافية للحلول والبرامج المطروحة، وإن المطالبة بالإلغاء لا تنفي البحث والتفكير في البدائل الأخرى الممكنة.
إن أي تغير في ظروف عمل العمالة المهاجرة وتحديداً في رتبها الوسطى والدنيا يتطلب تضافراً لجهود دول الإرسال والاستقبال على حد سواء، كما يتطلب تحولاً مهماً في توجهات واتجاهات أصحاب العمل في المنطقة، وكذلك البحث عن مواقع الخلل والاستغلال الذي تتعرض له العمالة في كثير من المواقع. فالاستغلال الذي تتعرض له العمالة المهاجرة في العالم يبدأ في كثير من الحالات في دول الإرسال على يد سماسرة تنظيم عمليات الهجرة للباحثين عن عمل في الدول الغنية، في الخليج وأوروبا، وهي عملية تتداخل في الاتجار بها أطراف عدة في هذه الأقاليم، وفي دول الاستقبال، ترتقي في بعضها لأن تكون أو تشكل إحدى ظواهر أو حالات ”الاتجار في البشر” في العالم. وهي ظاهرة تستشري في ظل غياب الرقابة وتراخي تطبيق القانون.
وخلاصة القول إن تعاظم عمليات العولمة وانكشاف المنطقة الاقتصادي والسياسي والثقافي على العالم ودخولها في اتفاقات سياسية واقتصادية ثنائية مع أمريكا وأوروبا، ودخولها أو توقيع بعضها اتفاقات منظمة التجارة العالمية، كل ذلك يفرض عليها ضغوطاً لتحديث ليس أنظمتها الاقتصادية والسياسية فقط، وإنما في أن تحدث قدراً من التحول والتحديث في تشريعاتها الحاكمة في ما يخص وجود وإقامة العامل الأجنبي وكذلك تشريعاتها المحلية المنظمة للعلاقات الأسرية باتجاه إعطاء المرأة حقوقاً أكبر في مجتمعاتها. وهي مسألة قد تتطلب من دول المنطقة أن تأخذ المبادرة في البحث عن خيارات جديدة منظمة لعمل وإقامة العمالة الأجنبية يؤخذ فيها البعد الحقوقي والإنساني، قبل أن يفرض عليها ما لا ترغب فيه، ويحدث قدراً من الامتعاض والإرباك في أسواق العمل الخليجية. إلا أنه يبقى المعضل الثقافي الآخر المتمثل في حقيقة أن تغيراً في منظومة القوانين الحاكمة لعمل وإقامة العمالة الأجنبية لا يعني إنهاء لمعاناتها الإنسانية، ففي النهاية ستكون هناك شركات وأفراد محليون وعمالة أجنبية خارقة لأي أنظمة وإجراءات تشريعية تشعر بأنها مُقلصة لحجم عائدها المادي وضابطة لنفوذها المنفلت من قبضة القانون.