د.عبدالحميد الأنصاري
قبل أسبوعين، وفي أضخم وأخطر مظاهرات تشهدها المنطقة، قام الآلاف من عمال الخدمات والنظافة البنغاليين، بسلسلة من الإضرابات في عدد من مناطق الكويت مثل (جليب الشيوخ) و(الصليبية) و(الحساوي) و(المهبولة) واستمرت المظاهرات عدة أيام، احتجاجاً على الظروف المعيشية السيئة، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الانسانية، وقد أدى تغيب هؤلاء العمال عن دوامهم اليومي إلى شل كثير من الأعمال الخدمية وتعطيل مصالح المراجعين في المؤسسات الحكومية. وكانت أعنف المظاهرات في منطقة (جليب الشيوخ) التي استمرت يومين ووصفتها صحيفة (السياسة) الكويتية بـ (شيكاغو الكويت) بسبب تحولها إلى عمليات تخريب وتحطيم للمحلات والمركبات، وخطف عائلة بنغالية ومطالبة الجهات الأمنية بتنفيذ مطالبهم أو قتل الرهائن، فيما قام آخرون بخطف المسؤول عن رواتبهم وضربه، وكادت الأمور أن تتطور إلى الأسوأ لولا تدارك وزارة الداخلية الأمر واستعانتها بقوات مكافحة الشغب التي استطاعت احتواء الموقف والسيطرة على الانفلات الأمني، حيث تم تفريق المتظاهرين والقبض على الزعماء المحرضين وترحيلهم، وقد وصف أهالي جليب الشيوخ ما حصل بأنه أشبه بحرب عسكرية، مؤكدين أن أصوات القنابل التي اطلقتها القوات الأمنية زرعت في نفوسهم الرعب، وكادت عدوى الاضرابات أن تصل للآخرين، فقد تم إلقاء القبض على ٥ مصريين بتهمة تحريض زملائهم في شركات الحراسة للاعتصام للمطالبة برفع رواتبهم.
التساؤلات المطروحة هي: ماذا يريد العمال البنغال؟ وما الذي دفعهم للاضراب؟ ولماذا ظاهرة الاعتصامات العمالية التي شهدتها الخليج في السنوات الأخيرة؟
مطالب العمال بسيطة ومشروعة، يريدون الانصاف وتدخل الجهات المسؤولة في الدولة لحمايتهم من جشع (شركات الخدمة) التي تستغلهم أبشع استغلال، تعطي العامل راتباً لا يتجاوز (٨١) ديناراً ولا تكتفي بهذا الأجر المتدني بل تتعمد تأخير صرف الرواتب شهوراً عديدة، وليس هذا فحسب بل تستقطع (٠٧) ديناراً لأجل الإقامة و(٠٨) ديناراً للتأمين الصحي. فماذا يبقى لهذا المطحون وسط الغلاء الفاحش في المنطقة؟ وماذا يبقى ليرسله لأهله الذين تغرب من أجلهم؟ وكيف يعوض ما دفعه من أجل الفيزا والقدوم إلى المنطقة؟!
يقول د. شملان العيسى: »إن هؤلاء العمال البسطاء وقعوا عقود عمل بمرتب (٠٤) ديناراً وعند وصولهم وجدوا أن رواتبهم خفضت إلى النصف، وأن السكن مزدحم وغير لائق، وأن فترة العمل تصل إلى (٤١) ساعة بالنسبة لبعض الشركات بدلاً من (٨) ساعات حسب القانون الكويتي«.
ولكن لماذا تتكرر الاضرابات العمالية؟ ولماذا يتحول بعضها إلى شغب؟
الجواب يكمن في يأس هؤلاء العمال من تلبية مطالبهم في تحسين أوضاعهم وعدم ثقتهم في وعود المسؤولين رغم كثرتها. إذ أثبتت الأحداث السابقة واللاحقة أن الجهات المسؤولة بمراقبة الشركات التي تستقدم هؤلاء العمال، لضمان التزامها بالعقود المبرمة مع الحكومة، عاجزة عن القيام بمسؤولياتها وغير قادرة على تطبيق القانون على تلك الشركات وذلك يعود إلى (٣) عوامل:
١- أن معظم أصحاب تلك الشركات المخالفة ومثلهم (تجار الإقامات) من المتنفذين بالدولة ومن المنتفعين الذين لا تطالهم حبال القانون.
٢- وهو الأهم أن ظاهرة (الاتجار بالبشر) أصبحت ظاهرة عالمية معقدة ومتداخلة وتتخطى الحدود الوطنية، ولا تستطيع الجهة المسؤولة في الدولة – وحدها – أن تواجه الظاهرة ما لم تكن هناك استراتيجية عامة لمكافحة الاتجار بالبشر يتعاون في تنفيذها كافة مؤسسات الدولة، وإذا اضفنا إلى ذلك أن الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة لا تساعد كثيراً في معالجة الظاهرة، أدركنا مدى صعوبة الوضع.
٣- إن ظاهرة (الاتجار في البشر) أصبحت تدر أرباحاً فاحشة لأصحابها ولكل الأطراف الأخرى الداخلية والخارجية المتصلة بها. يوضح د. علي الطراح – عالم الاجتماع الكويتي – هذا الأمر بقوله: الدول المصدرة للعمالة دول فقيرة وعقود العمل تصاغ بطريقة تخضع العامل للابتزاز، إذ عليه أن يدفع (٠٠٥) دولار للشركة المصدرة في بلاده، وعندما يأتي للكويت تقوم الشركة الكويتية بتشغيله في المؤسسات الحكومية بما يعادل (٠٠٣) دولار، لكنها تعطي العامل (٠٦) دولارا فقط، بمعنى أن هذه الشركات تحقق أرباحاً هائلة من التجارة في هذه العمالة.
وقد قدرت منظمة العمل الدولية أن الأرباح وصلت من هذه التجارة إلى ما يقارب (٠٣) مليار دولار، وتعتبر جريمة الاتجار بالبشر ثالث جريمة في العالم بعد جريمتي المخدرات والسلاح، لكن الكويت ليست وحدها التي تعاني من الإضرابات العمالية، إذ تكررت في أكثر من بلد خليجي في الآونة الأخيرة للمطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، وفي العام الماضي وفي دبي، قامت مجموعة من العمال بإغلاق الطريق الرئيسي المؤدي إلى (جبل علي) ورمي السيارات بالحجارة مما توجب تدخل قوات مكافحة الشغب لتفريقهم، علماً بأن رواتبهم كانت تتراوح بين (٠٠٦ – ٠٠٠١) درهم شهرياً.
بسبب هذه الاحتجاجات والأوضاع المعيشية السيئة للعمالة الوافدة، أصبحت الدول الخليجية، عرضة لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية، والتقرير السنوي للخارجية الأمريكية، الذي يصنف دول العالم طبقاً لجهودها في مكافحة (الاتجار بالبشر) وفق (٣) فئات، أدناها (الثالثة) الخاصة بالدول التي لا تحقق تقدماً في هذا الشأن، وتضم (٦١) دولة عربية.
علينا التخلص من النظرة التشكيكية في التقارير الدولية، وكفانا أوهاماً تآمرية، فذلك دليل عدم ثقة بالذات، ولا يحل المشكلة.
علينا إبراز الجهود الخليجية المبذولة في معالجة هذه الظاهرة، سواءً على صعيد اعداد التشريعات القانونية، أو على صعيد الاجراءات العملية لتحسين الأوضاع المعيشية للعمالة – دبي أنشأت مؤخراً أضخم مدينة عمالية (٥) نجوم تسع (٧٨) ألف عامل – أو على صعيد محاسبة الشركات المسيئة وتجار الاقامات، فذلك ما يحسن صورتنا الخارجية. التقارير الدولية الراصدة لأوضاعنا الداخلية، تصب في مصلحتنا ومصلحة تعزيز الحقوق والحريات وهي في النهاية تتسق وتعاليم ديننا في احترام كرامة الانسان، فعلينا أن لا نخشاها أو نخجل منها أو نرتاب فيها.
الكويت وعت الدرس العمالي، وبادرت إلى اتخاذ قرارات حاسمة ضد المتاجرين المسيئين، وقال نائب الأمير (حاربوا تجار الاقامات ولا يردكم ولد شيوخ أو تاجر، واقطعوا اليد العابثة بالكويت) وقد أغلق زلزال العمالة شركتين لنائب وشيخ، وتم اعتماد الحد الأدنى للأجور بـ (٠٤) ديناراً لعمال النظافة و(٠٧) للأمن والحراسة، وهذا هو الحل العملي السليم، أما الانكار والتجاهل فانهما كفيلان بتحويل المشكلة العمالية إلى ما هو »الأخطر من النووي على الخليج« كما قال وزير العمل البحريني.