بقلم: د. مجيد بن محسن العلوي ـ وزير العمل
ليس في البحرين وحدها وإنما في جميع دول العالم، كان هناك تجاذب وتضارب واختلاف في كيفية احتساب نسبة البطالة »عدد العاطلين إلى إجمالي القوى العاملة« فهو رقم حساس طالما تقاذفته قوى سياسية وخضع لأهواء ومشارب عدة.
فتعريف العاطل عن العمل كان يتذبذب بين مفهوم موسع تدخل في نطاقه فئات وشرائح واسعة من السكان غير النشطين اقتصادياً أو يضيق ذلك المفهوم ليكتفي باحتساب المسجلين في مكاتب التشغيل في وقت كانت فيه تلك المكاتب تعاني من عزوف وقلة إقبال لأسباب تاريخية ولأسباب أخرى عديدة، كان من أهمها عدم الثقة بين الأطراف المعنية، الوزارة، رجال الأعمال والعاطلين.
ولقد أدركنا في وزارة العمل ومنذ الوهلة الأولى أن حجر الزاوية في نجاح خطط وبرامج التوظيف إنما يعتمد بشكل حاسم على أرقام ومعدلات البطالة الحقيقية والموثوقة والدقيقة و من ثم الإفصاح عنها بشفافية مطلقة ودعوة الجميع للتعامل معها بحرفية ومنهجية علمية وصدقية في القول والعمل وهو الأمر الذي حتم التوجه لدراسة التجارب الدولية المتقدمة والتفاعل مع الخبرة الفنية المتوفرة لدى المنظمات الدولية المتخصصة وما أفرزته هذه الخبرات والتجارب من نتائج ومنجزات على مستوى تحديد آليات قياس البطالة وتحديد المفاهيم والتعريفات المتعلقة بها وباختصار شديد يمكن إيجاز خلاصة التجربة الدولية فيما يلي:
أولاً: تعريف البطالة وقياسها:
وضعت منظمة العمل الدولية تعريفاً حاسماً للعاطلين عن العمل توج جل خبرتها الفنية المتراكمة، حيث تحدد المنظمة مفهوم العاطلين بأنهم »أفراد قوة العمل الذين لا يعملون والراغبين في العمل وفق الأجور السائدة والباحثين عنه ولا يجدونه«.
ويستند هذا التعريف إلى معايير واضحة تسمح بالتوصل إلى قدر أكبر من الدقة حسب العناصر التالية:
١- أن يكون الشخص دون عمل خلال فترة الإسناد الزمني الخاضع للقياس.
٢- الاستعداد للعمل: أن يكون الشخص في وضع يسمح له باستلام عمل فوراً أو بعد فترة قصيرة.
٣- القدرة على العمل: يملك القدرات الجسدية والذهنية التي تمكنه من أداء عمل معين.
٤- البحث عن عمل: أي أن يكون الشخص قد اتخذ خطوات محددة للبحث عن عمل تشمل هذه الخطوات التقدم للتسجيل في مكاتب العمل والتقيد بالإجراءات الإدارية المحددة إضافة إلى التقدم مباشرة إلى أصحاب العمل والبحث الذاتي عن فرصة عمل مناسبة عبر الوسائل المتاحة.
ثانياً: مصادر البيانات الإحصائية وتنوعها:
لقد أسهم تعدد واختلاف مصادر البيانات الإحصائية وتعدد الجهات التي تتولى جمع هذه البيانات في جعل التحديد الكمّي والموضوعي لحجم ومدى ظاهرة البطالة غير معروف بشكل دقيق مما أوقع العاملين في إحصاءات العمل في مشكلات تتعلق بالقياس الكمّي لهذه الظاهرة لافتقار أدوات القياس والتحليل للتناغم والانسجام وفي كثير من الأحيان افتقارها للموضوعية ، الأمر الذي دفع الكثير من الجهات والأفراد للجوء إلى المصادر غير الرسمية ذات الطبيعة المختلفة والمتضاربة أو المبالغ فيها، ومن أهم المصادر الرسمية:
١- التعدادات السكانية: وتعتبر أهم المصادر الرئيسية للحصول على البيانات المتعلقة بسوق العمل، إلا أن هذا المصدر يشوبه القصور نتيجة لتباعد الفترات الزمنية بين تعداد وآخر والتي تبلغ عشر سنوات في المعتاد. مما يؤدي إلى صعوبة رصد المتغيرات السريعة والمتلاحقة بسوق العمل، حيث يفترض إجراؤها كل خمس سنوات على الأكثر.
٢- مسوح الأسر بالعينة: وتسعى هذه المسوح للحصول على بيانات تفصيلية عن الأفراد المنتمين لقوة العمل »المشتغلون والمتعطلون« وكذلك الأفراد خارج قوة العمل ولكن المعايير الدولية تعترف بما يشوب نتائج هذه المسوح من قصور ما لم يتم إجراؤها بصورة دورية منتظمة »نصف سنوية« وما لم يتم الالتزام بالدقة والموضوعية في تحديد وسلامة اختيار العينة ودقة وسلامة تحديد الأسئلة وأساليب تجميع البيانات وتحليلها على نحو يسمح بإجراء المقارنات بين نتائج المسوح المتتالية وتبقى إحصاءات هذه المسوح تمثل تقديرات حسابية مستندة إلى أسلوب الإدلاء بالمعلومات من قبل عينة صغيرة من أفراد الأسر وعدم قدرتها على تمثيل كل خصائص العمالة الوطنية والوافدة بمختلف توزيعاتها. وهناك كما هو معروف نظريات وقوانين في علم الإحصاء يجب أن تعتمد لضمان نسبة أعلى من الصحة.
٣- مسوح المنشآت: وتعتبر مصدراً إضافياً فيما لو توفر بشكل منتظم للحصول على بيانات حول حجم العاملين وخصائصهم المختلفة من حيث النوع والسن والمستوى التعليمي والجنسية فضلاً عن التعرف على ظروف العمل وحصر الاحتياجات المستقبلية من العمالة وغير ذلك من معلومات حول أوضاع سوق العمل إلا أن هذا المصدر لا يوفر بيانات عن العاطلين. كما أن هذا المصدر يوضح الطلب وليس العرض في سوق العمل.
٤- المصادر الإدارية قبل دخول بيانات إعانات التعطل: تعد البيانات الإحصائية الواردة في السجلات الإدارية التي يتم رصدها بصورة مباشرة عن طريق وزارة العمل ومكاتب التشغيل مصدراً سهلاً واقتصادياً قليل التكلفة للمعلومات الإحصائية وإحصاءات التشغيل إلا أنها تعاني من أوجه قصور متنوعة مثل محدودية الشمول والمحتوى.
٥- بيانات البطالة المرتبطة بإعانات التعطل: وهي أفضل المصادر وأكثرها دقة وموضوعية، وقد أصبح هذا المصدر في أمريكا وأوروبا وأستراليا يعكس حركة التوظيف بل تجاوز ذلك ليعكس مؤشرات السوق ونمو الاقتصاد وسعر صرف العملة ، وفي الاتحاد الأوربي يعد هو الأساس ليس لتحديد عدد العاطلين فحسب بل لوضع الخطط الاقتصادية الوطنية ولصياغة برامج التعليم والتدريب ووضع سياسات العمل بشكل عام. وفي بعض الدول الديموقراطية، فإن نسبة البطالة يمكن أن تزيح حزباً حاكماً وتأتي بغيره.
ثالثاً: من الجدير ذكره أن وزارة العمل كلفت مركز البحرين للدراسات والبحوث في العام ٤٠٠٢ القيام بمسح العينة لأعداد العاطلين، أشرف عليه خبير من منظمة العمل الدولية، وخبير آخر استقدمه المركز، وكان الهدف من المشروع الإعداد لإجراء الدراسة الاكتوارية اللازمة لوضع قانون التأمين ضد التعطل. وقد استفادت الوزارة من نتائج الدراسة في الإعداد للمشروع الوطني للتوظيف وأعلنت نتائج ذلك المسح في حينه حيث بلغ عدد العاطلين حينذاك »١٢« ألف عاطل منهم »٩« آلاف ممن كانوا يتاجرون بالبطاقة السكانية » أي أن بعض رجال الأعمال كان يدفع مبلغاً بسيطاً مقطوعاً لصاحب البطاقة ليرفع نسبة البحرنة لديه«.
رابعاً : انطلق »المشروع الوطني للتوظيف« لمواجهة الكم الأكبر المتراكم من العاطلين حسب نتائج المسح الذي قام به مركز البحرين للدراسات والبحوث وبإشراف خبير من منظمة العمل الدولية كما أشرت، حيث صيغت مختلف أدوات المشروع »كالتسجيل، والتقييم والتدريب والتأهيل والتوظيف« بناءً على الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للعاطلين حسب نتائج الدراسة المذكورة، حيث استطاع المشروع الذي حظي بدعم سخي من جلالة الملك المفدى وبعد عام ونصف من الجهود الكبيرة التي قادتها الوزارة وبمشاركة جهات رسمية وأهلية ومن القطاع الخاص من خفض نسبة البطالة في أوساط القوى العاملة البحرينية »وليس مجمل القوى العاملة« من ٥١-٦١٪ إلى ما دون ٤٪. هذا الإنجاز احتاج بالطبع للبناء عليه والتأكد من ديمومته بل وتحسينه، وكان مشروع التأمين ضد التعطل الأداة الإدارية والقانونية المناسبة.
خامساً: إن البحرين بتدشينها لقانون التأمين ضد التعطل الذي يوفر الدعم والمزايا المالية للعاطلين سواء من فئة الداخلين الجدد في سوق العمل أو أولئك الذين يفقدون أعمالهم بعد ذلك، قد توفرت لها فرصة سانحة للانتقال إلى نظام إحصائي يضاهي أحدث التجارب الدولية المتقدمة، معتمداً على أحدث المفاهيم والتعاريف الدولية المعتمدة للقياس والتصنيف المتعلقة بالبطالة. ولقد جاء هذا المشروع ليوفر ضمانة لاستدامة السيطرة على ظاهرة البطالة في ضوء نتائج المشروع الوطني للتوظيف. وتعتبر مملكة البحرين رائدة في هذا النوع من التنظيم والالتزام على المستوى العربي وعلى مستوى الدول النامية.
والمشكلة التي واجهت هذا النظام الجديد المستحدث تتمثل في قابليته لتضخيم عدد العاطلين وليس خفضهم. وذلك بسبب قبول تسجيل وتغطية أعداد كبيرة من ربات البيوت أو الأفراد الذين يعملون في القطاع غير المنظم وهو ما ترتب عليه إقبال كبير على التسجيل بغرض الانتفاع من المزايا المالية وبالتالي ارتفاع في عدد العاطلين المسجلين خاصة في الأشهر الأولى من تنفيذ القانون.
غير أنه من غير المتصور أبداً أن يعجز هذا النظام عن استقطاب وحصر العاطلين الحقيقيين الذين يحق لهم أن ينتفعوا بمزاياه المالية التي تعينهم على تحمل أعباء الحياة خلال فترة التعطل الحرجة ما يؤهله لرصد وتحديد عدد العاطلين بشكل موضوعي ودقيق.
ولا تقتصر فوائد النظام على المزايا المالية »إعانات وتعويضات« وإنما تشمل الاستفادة من خدمات التوظيف والتدريب والتهيئة للعمل التي يوفرها المشروع للعاطلين، حيث تلتزم وزارة العمل بعرض فرص العمل المناسبة عبر بنك الشواغر الذي يضم الآلاف من فرص العمل المتعددة المستويات والمردود، فضلاً عن الخدمات المتطورة في مجال الإرشاد والتوجيه المهني وكذلك فرص التدريب والتأهيل التي تساعد العاطل على اكتساب المهارات المطلوبة مع منحه مكافآت مادية خلال فترة التدريب لا تحتسب ضمن فترة التعطل.
فإحصاءات إعانات التعطل تتجاوز إذاً نطاقها المالي لتكون أداة فاعلة للسيطرة على معدلات البطالة نفسها في المجتمع، لذا فإن نجاح وزارة العمل في إصدار النشرات الشهرية المنتظمة لإحصاءات وإعانات التعطل وحركة التشغيل ومعدلات البطالة ونشرها بمنتهى الشفافية والوضوح في الصحافة المحلية، بات أمراً لا يمكن تجاهل أهميته القصوى ودلالاته الملزمة، فهو يوفر المصدر المعتمد الوحيد لحركة العمالة الوطنية. ويحق لنا أن نسأل بعد ذلك عن السبب الذي يدفع أحد الأخوة النواب وبعض المهتمين بالشأن العمالي لتجاهل كل ذلك والاستمرار في طرح أرقام ونسب مفترضة للبطالة مجهولة المصدر أو مفتقدة لأسس القياس العلمي والموضوعي وبعيدة عن مقومات الموثوقية المتعارف عليها دولياً.
أليس الأولى أن يقف هؤلاء الإخوة عن كثب على مكونات التجربة المحلية العملية الجاري تنفيذها وهي متاحة لهم ودعمها وتقويتها وتقويمها إن وجد بها أي نقص أو خلل. وليس هناك في معالجة مسألة البطالة وملامسة احتياجات وآلام وتطلعات العاطلين والباحثين عن فرص العيش الكريم في ربوع هذا الوطن الغالي، حكماً نسعى لمرضاته سوى الله ثم الضمير وسلامة ونقاء الغاية والمقصد. إن من أولويات البحث المنصف أن تكون نتائجه مبنية على مقدمات وفرضيات منطقية ثم أن تكون منهجية البحث معتمدة على الموضوعية والعلمية المحايدة، وأن لا تتأثر »المقدمات والمنهجية« بأهواء ومقاصد سياسية آنيّة، لأن ذلك من شأنه أن يضيع من مصداقية النتائج ويضعها في خانة اللا منطق وحتى خانة المزايدات السياسية العقيمة.
فتعالوا يا من تزيدون و تزايدون في أرقام البطالة وتقللون من الفرص الوظيفية المعروضة إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن نعتمد جميعاً على الحقائق والأرقام المحصلة بالطرق العلمية والشفافة، وأن نرتكز جميعاً على جدار الصدق والأمانة، فأي تجاهل لانجاز وطني ما هو إلا أحد أمرين، إما جلد للذات الوطنية أو إفلاس في الموضوعية.