القصيبي‮ ‬يدق ناقوس خطر العمالة في‮ ‬الخليج

د‮. ‬محمد جابر الأنصاري

عمل الدكتور‮ ‬غازي‮ ‬عبدالرحمن القصيبي،‮ ‬وزير العمل السعودي،‮ ‬على إيصال رسالة بالغة الخطورة إلى مواطنيه في‮ ‬المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي‮ ‬بأسـلوب‮ »‬ناعم‮« ‬لكنه لافت ومؤثر وهو الشاعر والكاتب الروائي‮ ‬الضليع المتمكن من أساليب التوصيل والتواصل‮.  ‬والفرق انه قام شخصياً‮ ‬في‮ ‬هذه البادرة بدور‮ »‬البطل‮« ‬في‮ ‬المشهد الذي‮ ‬رآه كثيرون في‮ ‬التلفزيون والصحافة واقفـاً‮ ‬وعاملاً‮ ‬بملابـس النادل في‮ ‬المطعم لمدة ثلاث سـاعات و»مقبلاً‮« ‬رأس الشاب السعودي‮ ‬العامل في‮ ‬لمسة تقدير لدوره وفي‮ ‬لمسة إيقاظ لقيم العمل المهني‮ ‬الشريف لدى كل من‮ (‬ألقى السمع وهو شهيد‮). ‬هنا وزير نزل إلى ميدان عمله،‮ ‬على قلة من‮ ‬يفعل،‮ ‬من أجل قرع الجرس وإطلاق صفارة الإنذار لمجتمع منشغل بنشوة الفوائض والعقارات‮. ‬وقد‮ ‬يختلف البعض مع سياسات الوزير وقراراته في‮ ‬هذه المسألة أو تلك،‮ ‬لكن الاتفاق على هدفها الوطني‮ ‬العام لا‮ ‬يختلف عليه‮. ‬ولا بد من الإقرار أنه لجأ في‮ ‬بعض المعالجات لخلع أسنان واستئصال جراحي،‮ ‬وهذا لا مفر منه في‮ ‬السياسات الجذرية‮.‬
والواقع أن بادرة كهذه‮ ‬يفوق تأثيرها عشرات القرارات الوزارية الهادفة إلى تشجيع العمالة الوطنية في‮ ‬مجتمعات تعود شبابها على الرفاه والدعة،‮ ‬بل التكاسل الواضح‮.‬
كان‮ ‬غازي‮ ‬القصيبي‮ ‬قد صارح مجتمعه بهذه الحقيقة المرة منذ عام ‮٧٧٩١ ‬في‮ ‬محاضرة له بنادي‮ ‬الطائف عندما كان وزيراً‮ ‬للصناعة والكهرباء ثم نشـرت في‮ ‬واحد من أبكر كتبه الفكرية‮ »‬التنمية وجهاً‮ ‬لوجه‮«.  ‬قال عندها‮:  »‬إن أخشى ما أخشاه هو أن نكون خلال عبورنا من عصر القلة إلى عصر الوفرة أضعنا بعض الصفات التي‮ ‬تحلى بها جيل الآباء‮.. ‬العنفوان والقوة والصبر والإصرار‮.  ‬إني‮ ‬أشعر بكثير من القلق وأنا أشاهد بعض أبناء الجيل الجديد‮ ‬يتسكعون بسياراتهم صباح مساء،‮ ‬متزينين تزين النساء لا‮ ‬يكادون‮ ‬يحسنون شيئاً‮ ‬سوى العبث بأجهزة التسجيل والفيديو،‮ ‬وأرجو أن‮ ‬يأتي‮ ‬قريباً‮ ‬اليوم الذي‮ ‬يفرض فيه على كل شاب في‮ ‬المملكة أن‮ ‬يخدم وطنه في‮ ‬معسكرات الجندية ليتعلم منها الرجولة والانضباط والخشونة‮«.‬
وللتاريخ والحقيقة،‮ ‬فإن الموظفين والعمال السعوديين في‮ »‬أرامكو‮« ‬وهي‮ ‬شركة النفط في‮ ‬المملكة العربية السعودية،‮ ‬كانت لهم‮ – ‬ولا تزال‮ – ‬أدوارهم الإنتاجية المشهودة إلى جانب الخبراء والمشرفين من الدول الأخرى‮. ‬ويذكر في‮ ‬هذا الصدد من الخليج عمال البحرين الذين ذهبوا في‮ ‬البدايات الصعبة إلى جوارهم للعمل بالمنطقة الشرقية‮ – ‬موطن أرامكو‮ – ‬وأسهموا في‮ ‬تشييد خط‮ »‬التابلاين‮«  ‬الناقل للنفط السعودي‮ ‬إلى مرافئ شرق المتوسط‮. ‬وفي‮ ‬احتفالية أرامكو بالذكرى الستين للاتفاق بين الملك عبدالعزيز آل سعود وشركات النفط الأمريكية التي‮ ‬رعاها الملك عبدالله بن عبدالعزيز بحضور قادة مجلس التعاون الخليجي‮ ‬الذين شاركوا‮ ‬يومها في‮ ‬القمة التشاورية بالدمام،‮ ‬وكان في‮ ‬المقدمة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البحرين،‮ ‬برزت وثائق وصور لتلك الفترة التأسيسية التي‮ ‬رعاها الملك المؤسس عبدالعزيز،‮ ‬وكان إلى جواره حكام البحرين في‮ ‬حينه من الشيخ حمد إلى الشيخ سلمان بن حمد في‮ ‬إشارة تاريخية إلى أن اكتشاف النفط البحريني‮ ‬أدى إلى التنقيب عن النفط السعودي‮ – ‬وبنجاح‮ – ‬وهي‮ »‬شراكة‮« ‬سعودية‮ – ‬بحرينية ما زالت قائمة إلى‮ ‬يومنا بين البلدين في‮ »‬حقل أبو سعفة‮« ‬المشترك بينهما‮.‬
وفي‮ ‬صلب موضوعنا،‮ ‬بشأن رعاية العمالة الوطنية في‮ ‬الخليج،‮ ‬فلا بد من التوقف لدى مشروع الملك حمد الذي‮ ‬خصص دعماً‮ ‬كبيراً‮ – ‬قياساً‮ ‬بدخل البحرين‮ – ‬لتحقيق هذا المشروع الذي‮ ‬يشرف عليه مجلس‮ »‬التنمية الاقتصادية‮« ‬برئاسة ولي‮ ‬العهد الشيخ سلمان بن حمد ومتابعة الدكتور مجيد العلوي،‮ ‬وزير العمل البحريني،‮ ‬حيث تناقصت نسبة البطالة في‮ ‬البحرين إلى أدنى مستوياتها في‮ ‬مرحلة زادت فيها الاستثمارات وازدادت الحاجة،‮ ‬تبعاً‮ ‬لذلك،‮ ‬للعمالة الأجنبية‮.‬
والرسالة‮ ‬غير المباشرة الناعمة والطريفة التي‮ ‬وجهها‮ ‬غازي‮ ‬القصيبي‮ ‬مؤخراً‮ ‬إلى مواطنيه‮ – ‬واللبيب من الإشارة‮ ‬يفهم‮ – ‬تجدها‮ »‬مترجمة‮« ‬بلغة أكثر صراحة ومباشرة وربما أكثر حدة في‮ ‬كتاب جديد للمفكر الإماراتي‮ ‬والأستاذ الجامعي‮ ‬ومندوب دولة الإمارات السابق في‮ »‬اليونسكو‮« ‬د‮. ‬حسين‮ ‬غباش بعنوان‮ (‬الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة‮).  ‬والكتاب‮ ‬يضم دراسات بشأن التركيبة السكانية بدولة الإمارات العربية المتحدة تم نشرها‮ – ‬حسب إشـارة المؤلف‮ – ‬في‮ ‬جريدة‮  »‬الخليج‮« ‬منتصف تسعينيات القرن المنصرم،‮ ‬ضمن الحوار القائم حينئذ حول مسألة الهجرة الآسيوية والتركيبة السكانية‮.‬
ويشير المؤلف إلى أن ثمة خللاً‮ ‬في‮ ‬التركيبة السكانية‮ ‬يهدد‮ »‬الهوية الوطنية‮« ‬بحكم وصول عدد العمال الهنود‮ – ‬وحدهم‮ – ‬إلى ضعف عدد المواطنين في‮ ‬الإمـارات،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينسحب،‮ ‬بنسبة أو بأخرى على بلدان خليجية أخرى‮..‬
وهو‮ ‬يتناول مفهوم‮ »‬التنميـة‮« ‬الذي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يكون حمايـة للهوية الوطنية،‮ ‬أولاً،‮ ‬ثـم‮  »‬تنمية‮« ‬اقتصادية عمرانية مادية‮. ‬ويخلص إلى القول‮ »‬يجب أن تكون التنمية متناغمة ومنسجمة وظروف البلد والمجتمع وخصوصياتهما بكل تفاصيلها‮.. ‬وأي‮ ‬تنمية لا تشمل كل الجوانب المذكورة هي‮ ‬تنمية ناقصة أو انتقائية أو آحادية،‮ ‬تخدم شيئاً‮ ‬معيناً‮ ‬على حساب مصالح الوطن الأساسية الأهم‮.. ‬ولأن موضوع التنمية ليس بموضوع اقتصادي‮ ‬أو تجاري‮ ‬حصراً‮ ‬لذلك لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يترك للتجار أو أصحاب الدكاكين‮.  ‬إذ إن أغلبية هؤلاء‮ ‬يسيرهم ويحكمهم منطق الربح لا منطق الهوية‮..« ‬الكتاب،‮ ‬ص ‮٩٣ – ١٤ .‬
إن هذا التحليل،‮ ‬من الناحية النظرية والمبدئية،‮ ‬تحليل سليم ولا‮ ‬يمكن الاختلاف معه‮.  ‬ولكن،‮ ‬كما نبه‮ ‬غازي‮ ‬القصيبي‮ ‬قبل ثلاثين عاماً،‮ ‬فإن المطلوب لتقليص أثر ذلك دفع الشباب الخليجي‮ ‬نفسه الذي‮ ‬يمر ببطالة في‮ ‬بعض دول الخليج‮ – ‬رجالاً‮ ‬ونساء‮ – ‬إلى حب العمل،‮ ‬والاستعداد له،‮ ‬وعدم وضع الاشتراطات التعجيزية للقبول به‮. ‬ولا‮ ‬ينبغي‮ ‬التردد في‮ ‬نقد هذا الشاب‮ – ‬المواطن،‮ ‬بل‮ ‬ينبغي‮ ‬تقريعه في‮ ‬تقديرنا لأن المسألة متعلقة بمصيره ومصير بلده‮.‬
والدكتور حسين‮ ‬غباش‮ ‬يطالب بمزيد من العمالة العربية والخليجية‮ (‬البحرينية والعمانية واليمنية‮)‬،‮ ‬مثلاً،‮ ‬لتأدية هذا الدور في‮ ‬بلاده‮. ‬وهذه مسألة صائبة ويوافقه عليها كثيرون وكنا نتمنى لو أن عمالة عربية من بقية أقطار الوطن العربي‮ ‬مثلت‮ »‬الثقل‮«  ‬العمالي‮ ‬في‮ ‬الخليج وقلصت من تضخم العمالة الأجنبية‮. ‬ولكن حالت دون ذلك‮ – ‬للأسف‮ – ‬الحساسيات السياسية والأمنية بين البلاد العربية بعامة،‮ ‬يضاف إلى ذلك اعتبار مهني‮ ‬مهـم وخطير للغاية وهو مستوى‮ »‬أداء‮« ‬العمالة العربية الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن الدفاع عنه في‮ ‬بعض الأحوال‮. ‬والذي‮ ‬يغفله الدكتور حسين‮ ‬غباش في‮ ‬دعوته العروبية وحماسته المخلصة لزيادة حجم العمالة العربية‮. ‬ولا بد من الاعتراف والإقرار إنه عندما‮ ‬يكون الخطر الأجنبي‮ ‬داهماً‮ ‬فلا بد من العودة إلى العمالة العربية رغم كل التحفظات‮.‬
وثمة مسألة جذرية أثرت على قيم العمل عند العرب بعامة،‮ ‬وإن تجاوزتها مجتمعات منهم حققت تاريخياً‮ ‬مستويات من التحضر،‮ ‬ولكن بقيت شديدة التأثير في‮ ‬المجتمعات الخليجية والعربية المجاورة لمؤثرات الحياة الرعوية‮.  ‬فكما أشار عالم الاجتماع العراقي‮ ‬الفذ علي‮ ‬بن حسين الوردي،‮ ‬فإن‮ »‬الراعي‮« ‬يحتقر العمل اليدوي‮ ‬المهني‮ ‬ويعتبره‮ »‬مهانة‮« ‬يأنف منها‮.  ‬فمهنة ومهانة في‮ ‬اللغة العربية من جذر واحد‮. ‬وهي‮ ‬ظاهرة اجتماعية خطيرة،‮ ‬حيث إن أغلب العوائل القبلية،‮ ‬الأقرب إلى القيم التقليدية،‮ ‬لا تزوج بناتها من حداد أو نجار أو طباخ أو حتى مؤذن أو إمام مسجد إن لم‮ ‬يكن‮ »‬قبيلياً‮«. ‬لذلك حرص وزير العمل السعودي‮ ‬على‮ »‬تقبيل‮« ‬رأس المستخدم،‮ ‬ذلك المواطن العادي‮ ‬البسيط،‮ ‬الذي‮ ‬من‮ ‬غير المحتمل أن‮ ‬يكون‮ »‬قبيلياً‮«..!‬
وهناك بعد آخر لهذه المسألة،‮ ‬وهو أن‮  »‬التنمية العقارية‮« ‬ليست هي‮ ‬نهاية المطاف‮.  ‬فثمة نشاط عقاري‮ ‬هائل اليوم في‮ ‬بلدان الخليج،‮ ‬لكنه نشاط لا‮ ‬يطمئن الذين‮ ‬يهمهم المستقبل،‮ ‬ولا‮ ‬يجوز حصر التنمية في‮ ‬هذه المنطقة بالعمارات والأبراج‮.‬
في‮ ‬مقابلة تلفزيونية لرجل الأعمال السعودي‮ ‬صالح كامل أجراها معه زاهي‮ ‬وهبي‮ ‬قال صالح كامل‮: ‬إن تشييد الأبراج العقارية مع الحاجة إليها ليس هو المطلوب بقدر الحاجة إلى الإنتاجية من خلال تشييد‮ »‬المصانع‮« – ‬الحياة‮ / ‬عبدالعزيز السويد ‮٥٢/٦/٨٠٠٢.‬
في‮ ‬التنمية العقارية،‮ ‬أي‮ ‬بناء العمارات والأبراج،‮ ‬بإمكانك إحضار الآلاف من العمالة الأجنبية لإنجاز هذه المشاريع،‮ ‬أما المصانع الدائمة في‮ ‬هذه الأرض‮ – ‬ولا بد من التنبه الى أن المصانع التقليدية لم تعد هي‮ ‬الرائجة بعد انتشار التقنيات الدقيقة‮ – ‬فإنها تحتاج بصفة مستمرة إلى الأيدي‮ ‬الماهرة والمدربة من أبناء البلاد الدائمين‮.. ‬أو هكذا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يكون‮!‬
‮*  ‬مفكر من البحرين‮.